و لم یقف الأمر عند حد ما جرى بین الامام «علیهالسلام» و المأمون و العباسیین، و لا عند حد ما جرى بین الامام و المأمون و یحیى بن أکثم، حینما أراد أن یقطع الامام ولو فى مسألة واحدة..
بل عادت العقرب للظهور من جدید، فى ثوب یحیى بن أکثم لیطرح مسائله على الامام. و کأنى به «علیهالسلام» یبتسم آنئذ بمرارة و سخریة، و لسان حاله یقول:
ان عادت العقرب عدنا لها
و کانت النعل لها حاضرة
و قد کان «علیهالسلام» یعلم: أن هذه المحاولات ستزید المأمون خزیا و حقدا..
و قد جاءت الأسئلة هذه المرة ذات طعم خاص، و نکهة خاصة، اذ انها ترتبط بفضائل أبىبکر و عمر – و ذلک بحضور جماعة کثیرة، و فیهم المأمون نفسه..
فقد روى: أن المأمون بعد ما زوج ابنته أمالفضل أباجعفر «علیهالسلام»، کان فى مجلس، و عنده أبوجعفر «علیهالسلام»، و یحیى بن أکثم و جماعة کثیرة، فقال له یحیى بن أکثم:
ما تقول یابن رسولالله فى الخبر الذى روى أنه: «نزل جبرئیل «علیهالسلام» على رسولالله «صلى الله علیه و آله»، و قال: یا محمد، ان الله عزوجل یقرؤک السلام، و یقول لک: سل أبابکر، هل هو عنى راض، فانى عنه راض؟!».
فقال أبوجعفر: لست بمنکر فضل أبىبکر، ولکن یجب على صاحب هذا الخبر أن یأخذ مثال الخبر الذى قاله رسولالله «صلى الله علیه و آله» فى حجة الوداع: لقد کثرت على الکذابة، و ستکثر بعدى، فمن کذب على متعمدا، فلیتبوأ مقعده فى النار، فاذا أتاکم الحدیث عنى فاعرضوه على کتاب الله و سنتى، فما وافق کتاب الله و سنتى فخذوا به، و ما خالف کتاب الله و سنتى فلا تأخذوا به..
و لیس یوافق هذا الخبر کتاب الله، قال الله تعالى: (و لقد خلقنا الانسان
و نعلم ما توسوس به نفسه و نحن أقرب الیه من حبل الورید)(1) فالله عزوجل خفى علیه رضا أبىبکر من سخطه حتى سأل عن مکنون سره؟!
هذا مستحیل فى العقول..
ثم قال یحیى بن أکثم: و قد روى: أن مثل أبىبکر و عمر فى الأرض، کمثل جبرئیل و میکائیل فى السماء؟!
فقال: و هذا أیضا یجب النظر فیه، لأن جبرئیل و میکائیل ملکان لله، لم یعصیا الله قط، و لم یفارقا طاعته لحظة واحدة، و هما قد أشرکا بالله عزوجل، و ان أسلما بعد الشرک، فکان أکثر أیامهما فى الشرک بالله، فمحال أن یشبههما بهما..
قال یحیى: و قد روى أیضا: أنهما سیدا کهول أهل الجنة، فما تقول فیه؟
فقال «علیهالسلام»: و هذا الخبر محال أیضا، لأن أهل الجنة کلهم یکونون شبابا، و لا یکون فیهم کهل..
و هذا الخبر وضعه بنوأمیة لمضادة الخبر الذى قال رسولالله «صلى الله علیه و آله» فى الحسن و الحسین «سیدا شباب أهل الجنة»..
فقال یحیى بن أکثم: و روى: أن عمر بن الخطاب سراج أهل الجنة.
فقال «علیهالسلام»: و هذا محال أیضا، لأن فى الجنة ملائکة الله المقربین، و آدم، و محمد، و جمیع الأنبیاء و المرسلین، لا تضىء الجنة بأنوارهم حتى تضى ء بنور عمر؟!
فقال یحیى: و قد روى: أن السکینة تنطق على لسان عمر.
فقال «علیهالسلام»: لست بمنکر فضائل عمر، ولکن أبابکر أفضل من عمر، فقال على رأس المنبر: «ان لى شیطانا یعترینى، فاذا ملت فسددونى»..
فقال یحیى: قد روى أن النبى «صلى الله علیه و آله» قال: لو لم أبعث لبعث عمر.
فقال «علیهالسلام»: کتاب الله أصدق من هذا الحدیث،یقول الله فى کتابه: (و اذ أخذنا من النبیین میثاقهم و منک و من نوح)(2) فقد أخذ الله میثاق النبیین، فکیف یمکن أن یبدل میثاقه؟!
و کل الأنبیاء لم یشرکوا بالله طرفة عین، فکیف یبعث بالنبوة من أشرک، و کان أکثر أیامه مع الشرک بالله..
و قال رسولالله «صلى الله علیه و آله»: نبئت و آدم بین الطین و الجسد.
فقال یحیى بن أکثم: و قد روى: أن النبى «صلى الله علیه و آله» قال: ما احتبس عنى الوحى قط الا ظننته قد نزل على آل الخطاب.
فقال «علیهالسلام»: و هذا محال، لأنه لا یجوز آن یشک النبى «صلى الله علیه و آله» فى نبوته، قال الله تعالى: (الله یصطفى من الملائکة رسلا و من الناس)(3) فکیف یمکن أن تنتقل النبوة ممن اصطفاه الله تعالى الى من أشرک به؟!
قال یحیى: روى أن النبى «صلى الله علیه و آله» قال: لو نزل العذاب لما نجا منه الا عمر..
فقال «علیهالسلام»: و هذا محال أیضا: لأن الله تعالى یقول: (و ما کان الله لیعذبهم و أنت فیهم و ما کان الله معذبهم و هم یستغفرون)(4) فأخبر سبحانه أنه لا یعذب أحدا ما دام فیهم رسولالله «صلى الله علیه و آله»، و ما داموا یستغفرون..(5)
1) الآیة 16 من سورة ق.
2) الآیة 7 من سورة الأحزاب.
3) الآیة 75 من سورة الحج.
4) الآیة 33 من سورة الأنفال.
5) هذه الروایة فى الاحتجاج ج 2 ص 248 – 245 و البحار ج 50 ص 83 – 80.