بسم الله نفتتح هذا الموضوع الذى یبین الأدب الرفیع الذى أدب أئمتنا علیهمالسلام شیعتهم، و بما عناه سیدنا الامام الکاظم سلام الله علیه حین قال:
«کثیرا ما کنت أسمع أبىیقول: لیس من شیعتنا من لا تتحدث المخدرات بورعه فى خدورهن؛ و لیس من أولیائنا من هو فى قریة فیها عشرة آلاف رجل فیهم خلق لله أورع منه»(1)
فأئمتنا علیهمالسلام مربون ماهرون.
و قد فطرهم الله تعالى على القول الذى یذهب مثلا فى کل زمان و مکان، و یبقى دستور قویما، و صراطا مستقیما.
و کلماتهم الشریفة تنفذ الى أعماق القلوب فى الصدور… و تطوى العصور و الدهور و تبقى حقائق ثابتة لا یأتیها الباطل…و لم أر فى فلاسفة العالم، و لا فى علماء البشر، أحدا یقول قولا لا جدال فیه غیرهم، لأنهم
یصدرون بقولهم عن رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم، و عن کتاب الله المجید… و عن الهام ربانى… و لا تبدیل لکلمات الله عزوجل.
فعن ابراهیم بن عبدالحمید، عن أبیه، عن امامنا أبىالحسن علیهالسلام، قال: سمعته یقول: خلق الله الأنبیاء و الأوصیاء یوم الجمعة؛ و هو الیوم الذى أخذ الله فیه میثاقهم.
و قال: خلقنا نحن و شیعتنا من طینة مخزونة، لا یشذ منها شاذ الى یوم القیامة»(2)
فالحمدلله الذى جعلنا من طینتهم الشریفة، و من المجبولین على محبتهم، و من المنعقدة قلوبنا على ولایتهم. و نسأله سبحانه أن یحشرنا فى زمرتهم، و تحت لوائهم، لننال شفاعتهم یوم لا ینفع مال و لا بنون.
و کذلک قال امامنا علیهالسلام: «لیس کل من قال بولایتنا مؤمنا، ولکن جعلو انسا للمؤمنین»(3)
أى أنه تعالى جعل القائلین بولایتهم – من غیر العاملین بأوامرهم و نواهیهم – حصنا للؤمنین الصادقى الایمان، یحامون عنهم، و یدفعون کل أذى و انتقاد لیکونوا مرهوبین، أو على الأقل لیکونوا محفوظین لا تنالهم ید و لا لسان. فالشیعى العالم العارف الورع، یدافع عنه کل شیعى عامل أو متهاون، و عن کل مسلم مؤمن.
و قال على بن جعفر، روایة عن أخیه الکاظم علیهالسلام:
«انما شیعتنا المعادن و الأشراف، و أهل البیوتات، و من مولده طیب!.
قال على بن جعفر: فسألته عن تفسیر ذلک؟.
فقال: المعادن من قریش، و الأشراف من العرب، و أهل البیوتات من الموالى، و من مولده طیب من أهل السواد»(4)
فما أجمل هذا التفصیل الذى یدل على أن شیعتهم خلاصة الناس و أصفیاؤهم.
و مثل هذا التفصیل ما یلى:
روى صالح بن عقبة، عنه علیهالسلام، أنه قال:
«الناس ثلاثة: عربى، و مولى، و علج، فأما العرب فنحن، و أما الموالى فمن والانا، و أما العلج فمن تبرأ منا و ناصبنا»(5)
و هکذا نرى أن کل امام یضع الخطوط الکبرى لمنهج تربیته للشیعة، و یشرف على تطبیقه لیرى الموالى صافیا مصفى، طاهر الذات، منسجما فى قوله و عمله، صادقا فى سره و علنه. فاستمع الى قول امامنا هذا علیهالسلام الذى قال:
«لیس منا من لم یحاسب نفسه فى کل یوم، فان عمل خیرا استزاد الله، و حمدالله علیه، و ان عمل شرا استغفرالله منه، و تاب الیه»(6)
نعم، و ان کل عاقل یحاسب نفسه قبل أن یحاسب، و یصلح نفسه یوما
بعد یوم، لیأتى وقت یرضى فیه عن نفسه حین یضمن رضى الله تعالى علیه، و هذه قواعد راسخة یبنى أئمتنا علیهمالسلام تربیتهم للشیعة علیها لیکونوا من أکمل الخلق. و هم أساتذه ماهرون، و مربون فاخرون، یمسکون بقلوب شیعتهم کیلا یضلوا و لا یزلوا.
«و قد روى السید ابنطاووس أنه کان جماعة من خاصة أبىالحسن، موسى علیهالسلام، من أهل بیته و شیعته، یحضرون مجلسه و فى کمامهم ألواح آبنوس لطاف، و أمیال، فاذا نطق أبوالحسن علیهالسلام، بکلمة، و أفتى فى نازلة، أثبت القوم ما سمعوا منه فى ذلک»(7)
و هذا هو شأن طالب المعرفة بین یدى أستاذ معصوم ینقل عن أبیه، عن جده، عن رسول الله، عن جبرئیل، عن اللوح، عن القلم، عن الله تبارک و تعالى، و لا یغیر حرفا، و لا یبدل کلمة، و لا یقول من عند نفسه شیئا.
و قد صدق سیدنا أبوالحسن علیهالسلام فیما نقله عنه ابراهیم بن عبدالحمید الذى قال:
«محادثة العالم على المزابل، خیر من محادثة الجاهل على الزرابى»(8)
و الزرابى هو شبه المسند الذى یتکأ علیه من الفراش الناعم. و لیس أشرف من هذا القول فى میزان التقدیر و الاعتبار، لأن محادثة العالم ذات فائدة دائما، فى حین أن محادثة الجاهل اما أنها لا تجر نفعا، أو أنها توقع فى الاثم.
قال على بن یقطین:
«قال أبوالحسن علیهالسلام: مر أصحابک أن یکفوا من ألسنتهم، و یدعوا الخصومة فى الدین، و یجتهدوا فى عبادة الله عزوجل»(9)
ذلک أنه صلوات الله علیه یرید أن یصرفهم عن الجدل الذى لا یغنى فتیلا و یشهرهم و یلحق بهم الأذى، الى عبادة الله التى تجعلهم دائما فى عین الله سبحانه و فى رعایته، فلا یعملون لما یلفت الیهم نظر السلطان فیفتک بهم، اذ لا یفیدهم الخلاف فى قدم القرآن أو حدوثه مثلا، و لا هل هو مخلوق أم أزلى، بمقدار ما تفیدهم طاعة من طاعات ربهم جل و علا.
و روى عنه علیهالسلام، أنه قال:
«فقیه واحد ینقذ یتیما من أیتامنا المنقطعین عن مشاهدتنا، یتعلم ما هو محتاج الیه، أشد على ابلیس من ألف عابد، لأن العابد همه ذات نفسه فقط، و هذا همه مع ذات نفسه ذات عباد الله و امائه لینقذهم من ید ابلیس و مردته. و کذلک هو أفضل عندالله من ألف عابد، و ألف ألف عابد»(10)
و هکذا کان یحث على العلم و التعلم، و یشجع أصحابه على ارشاد الضالین، و یعلم الجاهلین. و قد سئل علیهالسلام:
«هل یسع الناس ترک المسألة عما یحتاجون الیه؟.
فقال: لا»(11)
ذلک أنهم اذا ترکوا المسألة عما لا یعرفون حکمه، ظلوا على جهلهم فى کثیر من الأمور، و عاشوا فى شبه ظلام مطبق. و قد قال علیهالسلام:
«دخل رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم الى المسجد، فاذا جماعة قد أطافوا برجل.
فقال: ما هذا؟!.
فقیل: علامة.
فقال: و ما العلامة؟.
فقالوا له: أعلم الناس بأنساب العرب و وقائعها، و أیام الجاهلیة و الأشعار العربیة.
فقال النبى صلى الله علیه و اله و سلم: ذاک علم لا یضر من جهله، و لا ینفع من علمه. ثم قال النبى صلى الله علیه و اله و سلم: انما العلم ثلاثة: آیة محکمة، أو فریضة عادلة، أو سنة قائمة و ما خلاهن فهو فضل»(11)
و لیس بعد قول رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم قول لأحد.
و قال علیهالسلام: «لتأمرن بالمعروف، و لتنهن عن المنکر، أو لیستعملن علیکم شرارکم، فیدعو خیارکم فلا یستجاب لهم»(12)
و نحن الیوم على موعد مع حکم الأشرار، اذ انقطع الأمر بالمعروف، و بطل النهى عن المنکر، و قد أخذ لا یستجاب دعاء خیر و لا شریر.
و قال على بن أبىحمزة:
«سمعت أباالحسن، موسى بن جعفر علیهالسلام یقول:
اذا مات المؤمن بکت علیه الملائکة، و بقاع الأرض التى کان یعبد الله
علیها، و أبواب السماء التى کان یصعد فیها بأعماله؛ و ثلم فى الاسلام ثلمة لا یسدها شىء، لأن المؤمنین الفقهاء حصون الاسلام، کحصن سور المدینة لها»(13)
و یکفى بهذا القول الکریم لأن یکون حافزا على التفقه فى الدین، و باعثا على الایمان و الیقین الذى تشده عنایة الله تبارک و تعالى، و ترفده هدایته. و لیس أجمل من اللحظات اللاذة التى یقفها العبد المؤمن بین یدى ربه – فى کل طاعة من طاعاته – فان جزاءها یوم القیامة یکون جزاء موفورا، و قد قال صفوان بن یحیى لأبى الحسن، موسى بن جعفر علیهالسلام: بلغنى أن المؤمن – بعد موته – اذا أتاه الزائر أنس به، و اذا انصرف عنه استوحش؟.
قال: لا یستوحش»(14)
أجل، و کیف یستوحش من ذکرنا حاله من النعیم المقیم؟!.
و حرض امامنا علیهالسلام شیعته على عمل الخیر و الاحسان الى الآخرین، فقال علیهالسلام:
«ان لله عبادا یسعون فى حوائج الناس، هم الآمنون یوم القیامة. و من أدخل على مؤمن سرورا فرج الله عنه یوم القیامة»(15)
و اعتنى سلام الله علیه کثیرا بحسن علاقة المؤمنین فیما بینهم، و قال:
«من قبل للرحم ذا قرابة فلیس علیه شىء. و قبلة الأخ على الخد، و قبلة الامام بین عینیه»(16)
و لیس أبرع من أئمتنا علیهمالسلام فى التربیة الصالحة التى تضمن سعادة الانسان فى الدارین و لقد قال على بن یقطین:
«قال لى أبوالحسن علیهالسلام: الشیعة تربى بالأمانى منذ مائتى سنة.
و قال یقطین لابنه على بن یقطین: ما بالنا قیل لنا فکان، و قیل لکم فلم یکن؟!.
فقال له على: ان الذى قیل لنا ولکم من مخرج واحد، غیر أن أمرکم حضر فأعطیتم محضه فکان کما قیل لکم، و أن أمرنا لم یحضر، فعللنا بالأمانى. فلو قیل لنا: ان هذا الأمر لا یکون الا الى مائتى سنة، أو ثلاثمائة سنة، لقست القلوب، و لرجع عامة الناس عن الاسلام. ولکن قالوا- أى الأئمة علیهمالسلام -: ما أسرعه و ما أقربه تألفا لقلوب الناس، و تقریبا للفرج»(17)
و على بن یقطین کان شیعیا کما هو معلوم، و أبوه لم یکن کذلک.
و لذلک قال له: کان أمرنا و حکمنا، و تأخر أمرکم فلم یکن. فبین له ابنه کیف یثبت على الأمر و على الحق الممحصون خاصة، و کیف یتعلل به المؤمنون عامة، ثم لا تمضى السنون الا و قد جاء أمر ربک و وقع الفرج المنتظر، و جاء الحکم الذى یملأ الأرض قسطا و عدلا على ید ثانى عشر الأئمة عجل الله تعالى فرجه… فالیقطینى کان عباسى الهوى، فى حین کان ابنه علویا موالیا شدید الولاء، و قد أجابه بما أجاب به بعض أئمتنا علیهمالسلام حرفا بحرف. و أمر العباسیین کان کما وعد رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم، و أمر الهاشمیین مؤجل الى آخر الزمان کما وعد صلوات الله و سلامه علیه و على أهل بیته الأطهار.
قال محمد بن عبیدة:
«قال لى أبوالحسن علیهالسلام: یا محمد؛ أنتم أشد تقلیدا أم المرجئة؟.
قلت: قلدنا، و قلدوا.
فقال: لم أسألک عن هذا؟.
فلم یکن عندى جواب أکثر من الجواب الأول.
فقال أبوالحسن علیهالسلام: ان المرجئة نصبت رجلا لم تفرض طاعته و قلدوه.
و أنتم نصبتم رجلا و فرضتم طاعته، ثم لم تقلدوه. فهم أشد منکم تقلیدا»(18)
ذاک أن هؤلاء نصبوا عباسیا لولایة أمیرالمؤمنین، و بایعوه على ذلک، من دون أن یقلدوه أو یعملوا بعمله، لأنهم لا یعتبرونه امام حق، بل والیا زمنیا، فکانوا على عکس المرجئة الذین ینصبون رجلا لم تفرض طاعته و یقلدونه و یعملون بأوامره و نواهیه.
و فى مجال التعامل بالمال و التجارة، تکلم امامنا علیهالسلام کثیرا، و لا یسعنا نقل جمیع أخباره فى الموضوع و لا فى غیره، لأن ذلک یقتضى دورة فقهیة کاملة الى جانب کثیر من الأخلاقیات و الاجتماعیات و غیرها. ولکننا سنذکر نموذجا من فتاواه سلام الله علیه فى بعض المواضیع المالیة؛ فقد قال اسحاق بن عمار:
«سألته عن الرجل یکون له مع الرجل مال قرضا، فیعطیه من ربحه مخافة أن یقطع ذلک عنه فیأخذ ماله، من غیر أن یکون شرط علیه؟.
قال: لا بأس به، ما لم یکن شرطا»(19)
و فتواه تبعد شیعته عن الربا الذى غرق فیه الناس الیوم الى شحوم آذانهم…
و لاصلاح حال التجار قال علیهالسلام:
«ثلاثة لا ینظر الله الیهم یوم القیامة: أحدهم اتخذ الله بضاعة، لا یبیع الا بیمین، و لا یشترى الا بیمین»(20)
ثم قال علیهالسلام:
«ان البیع فى الظلال غش، و ان الغش لا یحل»(21)
و هذا من أعظم الحث على الأمانة فى التجارة، لأن الظل یخفى کثیرا من عیوب المعروضات للبیع.
و فى الصحیح عنه علیهالسلام: «أنه سئل عن الرجل یأتى السوق فیشترى جبة فراء لا یدرى أذکیة هى أم غیر ذکیة. أیصلى فیها؟.
قال: لیس علیهم المسألة. ان أباجعفر علیهالسلام کان یقول: ان الخوارج ضیقوا على أنفسهم بجهالتهم. و ان الدین أوسع من ذلک»(22)
و هذا منتهى التوسعة على الناس، فقد قال النبى صلى الله علیه و اله و سلم: جئتکم بالشریعة السهلة السمحة.
و قال أخوه الثقة الجلیل على بن جعفر:
«سألته عن الرجل یأکل من مال ولده؟.
قال: لا، الا أن یضطر الیه فیأکل بالمعروف. و لا یصلح للولد أن یأخذ من مال والده شیئا، الا باذن والده»(23)
فما من باب تهذیب خلقى فیه حکم شرعى أو انسانى – اجتماعى الا و کان الأئمة علیهمالسلام یطرقونه و ینبهون شیعتهم الیه.
قال على بن یقطین: «سألت أباالحسن علیهالسلام یمر بالثمرة من الزرع و النخل و الکرم و الشجر و المباطح و غیر ذلک من الثمر، أیحل له أن یتناول منه شیئا و یأکل بغیر اذن من صاحبه؟. و کیف حاله ان نهاه صاحب الثمرة أو أمره القیم، فلیس له؟. و کم الحد الذى یسعه أن یتناول منه؟.
قال: لا یحل له أن یأخذ منه شیئا»(24)
و قد قال الشیخ فى التهذیب: قوله علیهالسلام: لا یحل له أن یأخذ منه شیئا، محمول على ما یحمله معه. فأما ما یأکله فى الحال من الثمرة فمباح. و هذا هو الواقع، فقد نبه الامام علیهالسلام الى ما یحمل، لا الى ما یؤکل.
و قال علیهالسلام: «قال عیسى علیهالسلام: ان صاحب الشر یعدى، و قرین السوء یردى، فانظر من یقارون»(25)
و اذا لم یحسن المرء اختیار قرینه، فانه یرتکب خطأ بحق نفسه… فکل قرین بالمقارون یقتدى. ففى الکافى، عن الجعفرى، قال: «سمعت أباالحسن علیهالسلام یقول:
مالى رأیتک عند عبد الرحمن بن یعقوب؟.
فقال: انه خالى.
فقال: انه یقول فى الله قولا عظیما، یصف الله و لا یوصف!. فاما جلست معه و ترکتنا، و اما جلست معنا و ترکته.
فقلت: هو یقول ما شاء. أى شىء على منه اذا لم أقل ما یقول؟.
فقال أبوالحسن علیهالسلام: أما تخاف أن تنزل به نقمة فتصیبکم جمیعا؟!. أما علمت بالذى کان من أحد أصحاب موسى علیهالسلام، و کان أبوه من أصحاب فرعون، فلما لحقت خیل فرعون موسى، تخلف عنهم لیعظ أباه فیلحقه بموسى، فمضى أبوه و هو یراغمه – یعارضه و یبطل حجته – حتى بلغا طرفا من البحر فغرقا جمیعا. و أتى موسى علیهالسلام الخبر، فقال: هو فى رحمة الله، ولکن النقمة اذا نزلت لم یکن لها عمن قارب المذنب دفاع»(26)
فالتأدیب عندهم صلوات الله علیهم یتناول کل ناحیة من نواحى حیاة الانسان، لأنه یرمى الى صفاء السیرة و تصفیة السریرة، بتجنب عشراء السوء ولو کانوا من أقرب الأقرباء.
قال معتب: «کان أبوالحسن علیهالسلام یأمرنا اذا أدرکت الثمرة أن تخرجها و نبیعها، و نشترى مع المسلمین یوما بیوم»(27)
و ذلک من أجل أن یتساوى الناس فى مأکلهم و مشربهم، و بمثل هذه الطریقة الفذة کان علیهالسلام – یربى شیعته و موالیه على عدم الاحتکار و الطمع فى غلو الأسعار بعد أن تقل الثمار. فهل للمحتکرین آذان یسمعون بها
و یعودون عن الجشع و التجارة بأرزاق العباد للغنى بخراب البلاد و انتزاع اللقمة من أفواه المساکین؟!.
قال عبدالله بن مصعب الزبیرى:
سمعت أباالحسن، موسى بن جعفر علیهالسلام، و جلسنا الیه فى مسجد رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم، فتذاکرنا أمر النساء فأکثرنا الخوض و هو ساکت لا یدخل فى حدیثنا بحرف. فلما سکتنا قال:
أما الحرائر فلا تذکروهن، ولکن خیر الجوارى ما کان لک فیها هوى، و کان لها عقل و أدب، فلست تحتاج الى أن تأمر و تنهى.
ودون ذلک ما کان لک فیها هوى، و لیس لها عقل و أدب، فأنت تحتاج الى الأمر و النهى.
و دونها ما کان لک فیها هوى، ولیس لها عقل و لا أدب، فتصبر علیها لمکان هواک فیها.
و جاریة لیس لک فیها هوى، لیس لها عقل و لا أدب، فتجعل فیما بینک و بینها البحر الأخضر.
قال عبدالله: فأخذت بلحیتى أرید أن أبصق فیها لکثرة خوضنا بما لم نقم فیه على شىء، ولجمعه الکلام.
فقال: مه، ان فعلت لم أجالسک»(28)
فما أدق التعبیر فى هذا التقریر عن الأنواع الأربعة من الجوارى!. فانه لا یمکن أن یزاد فیه حرف و لا ینقص منه حرف، لبلاغته و صدقه و حسن سبکه.
و قد قال الحسن بن الجهم:
«دخلت على أبىالحسن موسى بن جعفر علیهالسلام، و قد اختضب بالسواد. فقلت: أراک قد اختضبت بالسواد؟.
فقال: ان فى الخضاب أجرا. و الخضاب و التهیئة مما یزید الله عزوجل فى عفة النساء. و لقد ترک نساء العفة بترک أزواجهن لهن التهیئة»(29)
فکما أن الرجل یحب أن یرى زوجته مرتبة مهیأة و فى أحسن حال، فکذلک هذه الزوجة تحب أن ترى زوجها نظیفا مرتبا مهیأ و لا تمجه نفسها و ترغب فى غیره.
و قد علم شیعته على الالتزام التام بقضایا الحلال و الحرام، و ضرب لهم أمثلة حسیة، منها قوله الذى رواه ابراهیم بن أبىالبلاد الذى قال:
«أوصى اسحاق بن عمر عند وفاته بجوار له مغنیات، أن یبعن و یحمل ثمنهن الى أبى الحسن علیهالسلام.
قال ابراهیم: فبعت الجوارى بثلاثمائة ألف درهم، و حملت الثمن الیه، فقلت: ان مولى لک یقال له اسحاق بن عمر، قد أوصى عند وفاته ببیع جوار له مغنیات، و حمل الثمن الیک. و قد فعلت و بعتهن، و هذا الثمن ثلاثمائة ألف درهم.
فقال: لا حاجة لى فیه. ان هذا سحت. و تعلیمهن کفر، و الاستماع منهن نفاق، و ثمنهن سحت»(30)
و فى قوله الشریف هذا، انذار لشیعته بالامتناع عن استماع الغناء، و عن تعلمه و تعلیمه و أجرته التى هى سحت و حرام…
و عنا لأمر شبابنا و شاباتنا، الذین أصبحوا من هواه الغناء و اعتلاء خشبات المسرح لرفع أصواتهم بما یرضى الشیطان و یغضب الرحمان.
و کذلک روى عبد الحمید بن سعید مایلى:
«بعث أبوالحسن علیهالسلام غلاما یشترى له بیضا. فأخذ الغلام بیضة أو بیضتین، فقامر بها.
فلما أتى به أکله. فقال له مولى له: ان فیه من القمار.
قال: فدعا بطشت فقاءه، فتقیأه»(31)
و أنا على یقین بأن الامام علیهالسلام لم تخف علیه لعبة الغلام الذى قامر بالبیضة، و لا کون البیض الذى جاء به قد اختلط بالحرام، بل فعل ما فعل و عاد لیتقیأه أمام خدمه لینقلوا لشیعته هذه الحادثة فیتخذها الشیعة دستورا لحیاتهم فى ممارسة الحلال و الحرام، و لیروا أن المتدین الملتزم یلفظ الحرام و لو کان فى فمه أو بین أحشائه، لئلا یفعل ما یتنافى مع التزامه بأوامر الله تعالى و نواهیه.
و قال موسى بن بکر: «کنا عند أبىالحسن علیهالسلام، فاذا دنانیر مصبوبة بین یدیه؛ فنظر الى دینار فأخذه بیده ثم فلقه نصفین ثم قال لى: ألقه فى البالوعة حتى لا یباع شىء فیه غش»(32)
فقد عرف الدینار المغشوش و أتلفه بیده لئلا یبقى المغشوش بین أیدى الناس.
و روى عن هشام بن الحکم أنه قال:
«رأیت موسى بن جعفر علیهالسلام، یعزى قبل الدفن و بعده»(33)
و هذا من أدبه الرفیع الذى أدب الله تعالى به رسوله صلى الله علیه و اله و سلم، فقد حثنا على ذلک بقوله:
«من عزى حزینا، کسى فى الموقف حلة یحبر بها»(21)
و نحن ان عزینا حزینا فانما نعزیه لرفع الملاحظة عنا، و لا یخطر فى بالنا هذا المعنى الرفیع من کرم الله تبارک و تعالى الذى یأجر على مثقال الذرة، و ننسى أن تعزیة المحزون تجبر خاطرة، و تخفف من مصابه.
و فى الصحیح عن معمر بن خلاد، قال:
«سألت أباالحسن علیهالسلام عن القیام للولاة؟.
فقال: قال أبوجعفر علیهالسلام – أى جده -: التقیة دینى و دین آبائى، و لا ایمان لمن لا تقیة له»(34)
و التقیة لیست تدلیسا کما یظن الجهال، بل هى احترام آراء الغیر، و احترام المرء لنفسه. و لولا التقیة لتنافرت القلوب، و حصلت الفرقة، و هذا ما لا یقره الاسلام و لا یدعو له.
و قد قال امامنا علیهالسلام: «ان کان فى یدک هذه شىء، فان استطعت أن لا تعلم هذه، فافعل.
و کان عنده انسان فتذاکروا الاذاعة فقال: احفظ لسانک تعز، و لا تمکن الناس من قیاد رقبتک فتذل»(35)
فهو صلوات الله علیه یأمر بالتکتم فیما لا تنبغى معرفته، لأن اعلان الشىء غیر المرغوب فیه یجلب الخصومة و یؤدى الى الفتنة.
«قال اسحاق بن جعفر: سألت أخى موسى بن جعفر، فقلت: أصلحک الله، أیکون المؤمن بخیلا؟.
قال: نعم.
قلت: أیکون جبانا؟.
قال: نعم.
قلت: أفیکون خائنا؟.
قال: لا، ولا یکون کذابا، ثم قال: حدثنى أبىجعفر بن محمد، عن آبائه، عن أبیه على بن أبىطالب علیهمالسلام، قال: سمعت رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم یقول: على کل خلة یطوى المؤمن، لیس الخیانة والکذب»(36) أى أنه یتصف بکل صفة – حسنة کانت أو قبیحة – الا الخیانة والکذب فان المؤمن لا یتصف بهما و لا یرتضیهما لنفسه.
روى سماعة بن مهران أنه قال له علیهالسلام:
«أصلحک الله، انا نجتمع فنتذاکر ما عندنا، فلا یرد علینا شىء الا و عندنا فیه شىء مسطر – أى مکتوب و مروى عنکم – و ذلک مما أنعم الله علینا بکم. ثم یرد علینا الشىء الصغیر لیس عندنا فیه شىء، فینظر بعضنا الى بعض. و عندنا ما یشبهه، فنقیس على أحسنه؟.
فقال: و ما لکم و للقیاس؟!. انما هلک من هلک من قبلکم بالقیاس. اذا جاءکم ما تعلمون فقولوا به، و ان جاءکم ما لا تعلمون فها – و أهوى بیده الى فیه – لعن [الله] من یقول: قال على و قلت، و قالت الصحابة و قلت.
فقلت: أصلحک الله، أتى رسول الله الناس بما یکتفون به فى عهده؟.
قال: نعم، و ما یحتاجون الیه الى یوم القیامة.
فقلت: فضاع من ذلک شىء؟.
فقال: لا، هو عند أهله»(37)
أجل، ان ذلک کله عند ورثة الکتاب، و هم الأئمة الطاهرون الذین أخذ آخرهم عن أولهم، عن أمیرالمؤمنین علیهالسلام، عن جدهم رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم، عن الله عزوجل؛ و یکفى بهذه السلسلة الذهبیة سندا شریفا.
و کذلک قد جاء عن سماعة بن مهران قوله:
«قلت له: أکل شىء فى کتاب الله و سنة نبیه صلى الله علیه و اله و سلم أو تقولون فیه؟.
قال: بل کل شىء فى کتاب الله و سنة نبیه صلى الله علیه و اله و سلم»(21)
نعم… ولکن هات من یعرف کتاب الله و سنة النبى صلى الله علیه و اله و سلم معرفة حقة سوى الأئمة من أهل البیت صلوات الله علیهم، لأنهم هم الراسخون فى العلم.
1) المحجة البیضاء ج 4 ص 356 و الکافى م 2 ص 79.
2) بصائر الدرجات ج 1 ص 17.
3) المحجة البیضاء ج 4 ص 268-267 و الکافى م 2 ص 245.
4) معانى الأخبار ص 158.
5) المصدر السابق ص 403.
6) الاختصاص ص 243.
7) الأنوار البهیة ص 185.
8) الکافى م 1 ص 39.
9) التوحید ص 460.
10) الاحتجاج ج 2 ص 395.
11) الکافى م 1 ص 30 و ص 32.
12) المحجة البیضاء ج 4 ص 103 نقلا عن الکافى م 1 ص 56 رقم 3.
13) الکافى م 1 ص 38.
14) المحجة البیضاء ج 3 ص 419 نقلا عن کتاب من لا یحضره الفقیه ص 47.
15) المحجة البیضاء ج 3 ص 381.
16) المحجة البیضاء ج 3 ص 389.
17) الکافى م 1 ص 369.
18) الکافى م 1 ص 53.
19) المحجة البیضاء ج 3 ص 161 نقلا عن من لایحضره الفقیه ص 386 رقم 37، و هو مکرر فى التهذیب، و فى الوسائل و غیرها.
20) المحجة البیضاء ج 3 ص 174 و ص 175.
21) المصدر السابق.
22) المصدر السابق ص 232-231.
23) المصدر السابق ص 279 نقلا عن الکافى.
24) المحجة البیضاء ج 3 ص 281 نقلا عن التهذیب ج 2 ص 143.
25) المصدر السابق ص 311 نقلا عن الکافى ج 2 ص 640.
26) المحجة البیضاء ج 3 ص 313 و حلیة الأبرار ج 2 ص 278-277.
27) حلیة الأبرار ج 2 ص 281.
28) حلیة الأبرار ج 2 ص 279-278.
29) المصدر السابق ص 286.
30) حلیة الأبرار ج 2 ص 280-279.
31) المصدر السابق ص 280.
32) المصدر السابق نفس الصفحة.
33) المحجة البیضاء ج 3 ص 415 نقلا عن کتاب من لا یحضره الفقیه ص 45.
34) المصدر السابق ص 399 نقلا عن الکافى م 2 ص 219.
35) المصدر السابق ص 402- 401 عن الکافى م 2 ص 226.
36) کشف الغمة ج 3 ص 7 و 8.
37) الکافى م 1 ص 57 و ص 62.