«أخبر الامام الباقر – علیهالسلام – أن المنصور العباسى یملک الأرض شرقها و مغربها، و تطول مدته.
فقال المنصور للباقر – علیهالسلام -: «أملکنا قبل ملککم؟.
قال: نعم.
قال: أیملک أحد من ولدى؟.
قال: نعم.
قال: فمدة بنىأمیة أطول أو مدتنا؟.
قال: مدتکم. و لیلعبن بهذا الملک صبیانکم کما یلعب بالکرة!. هذا ما عهد الى أبى»(1)
و لقد صدقت، و صدق أبوک و أجدادک صلوات الله علیکم یا باقر العلم!. فانکم لم تخمنوا، و لم تتکهنوا، و لم تقولوا شیئا من عندکم، بل علمکم من علم جدکم الأعظم صلى الله علیه و اله و سلم، فلا عجب أن تخبروا عما یکون فى المستقبل لأنکم تصدرون فى ذلک عن مقدر الأقدار، و لذا کنتم أصدق
القائلین بعد الله تبارک و تعالى، و هذا یعرفه فیکم المحب و المبغض (و ما یکذب به الا کل معتد أثیم (12))(2) یکذب بأمور السماء برمتها.
و کأنى بأبىجعفر المنصور قد جذل و طرب لهذه البشارة، و اطمأن الى ملک طویل یتلاعب به صبیان العباسیین کتلاعب الأولاد بالکرة، و أکثر مما تلاعب به أسلافهم من بنىأمیة… و بعد هذا الاطمئنان أعطى لنفسه هواها، و ذهب على طیته و سوء نیته، یفعل الأفاعیل، و یأتى بالأباطیل، و ینشر الذعر فى أطراف البلاد الاسلامیة، و یسرف فى التقتیل و التنکیل.
فقد کان ملک المنصور عسرا لیس فیه یسر؛ خیم فیه الرعب على الناس فلم یذوقوا حلاوة العیش فى ظل سیفه المصلت فوق الرؤوس، اذ وضع على کل انسان عینا و رقیبا و خنق الأنفاس، واختطف النفوس بالجملة و بالمفرق… و أخاف أکثر ما أخاف العلویین، و قسا أشد قسوة على الأئمة من أهل البیت علیهمالسلام، و أمر فیما أمر بأن یحرق بیت الامام الصادق علیهالسلام، علیه و هو فیها!. و کأنه بذلک کافأ والده الامام الباقر علیهالسلام على بشارته بأنه یملک و تطول مدته!.
قال محمد بن سنان: «دخلت على أبىالحسن، موسى بن جعفر علیهالسلام، من قبل أن یقدم العراق بسنة، و على ابنه جالس بین یدیه، فنظر الى و قال:
یا محمد، انه سیکون فى هذه السنة حرکة، فلا تجزع لذلک.
قلت: و ما یکون، جعلت فداک، فقد أقلقنى ما ذکرت؟!.
فقال: أصیر الى هذا الطاغیة. أما انه لا یبدأنى منه سوء – أى لا یصیبنى شر -. و من الذى یکون بعده.
قلت: و ما یکون، جعلت فداک؟.
قال: یضل الله الظالمین، و یفعل الله ما یشاء…»(3) فى حدیث طویل لیس هنا محل الحاجة لتمامه -.
و فى هذا الحدیث یتجلى علمه علیهالسلام بما یکون فى المستقبل.
فقد أخبر بحدث مفزع یقع فى تلک السنة، اذ یحمل الى طاغیة زمانه قسرا من جهة، ثم لا یصیبه منه سوء من جهة ثانیة، ثم لا یؤذیه الخلیفة الذى یأتى بعد الخلیفة الحالى أیضا… و قد قال ذلک بتمام التأکید و الطمأنینة و العفویة و یتراءى للجاهل بعلمه کأن القدر بیده – و استغفر الله – مع أنه یعلم ذلک بتعلیم من الله العزیز القدیر.
و من المؤسف أن سلاطین بنىالعباس، کان دیدنهم الجعجعة بأئمة أهل البیت سلام الله علیهم، حتى کأن من شروط تولیهم أمور المسلمین، أن لا یترکوا الصالحین من المسلمین یستقرون فى بیوتهم و بین أسرهم کسائر الناس العادیین. فقد کانوا یصیرونهم ما بین الحجاز و العراق، و یتلهون فى أذیتهم و تعذیبهم و الوقوف بوجههم، کما یتهلى لاعب النرد و الشطرنج. فلم یکن عندهم أسهل من اعتقال الامام و حمله الى بغداد محاطا بالجنود و الحرس، و أن تفرض علیه الاقامة الجبریة فى عاصمة الحکم، أو أن یزج به فى غیاهب السجن، و ینقل من حبس الى حبس کلما رفض صاحب حبسه أن یقتله… و هم یفعلون ذلک مع سادة الناس، من غیر أن یحسبوا حسابا لرب یحصى علیهم الأنفاس، و یأخذهم – حین یأخذهم – بسوء أعمالهم،
و بخسیس فعالهم… أفلم یکونوا مسلمین یا مسلمین و هم خلفاء على المسلمین؟!.
الله و رسوله أعلم… و الناس أیضا یعلمون، ولکنهم لا یبوحون بالکلمة الصریحة.
و روى داود بن زربى، عن أبىأیوب النحوى، أنه قال:
«بعث الى أبوجعفر المنصور فى جوف اللیل. فأتیته، و دخلت علیه و هو جالس على کرسى، و بین یدیه شمعة، و فى یده کتاب.
فلما سلمت علیه رمى بالکتاب الى و هو یبکى، فقال لى: هذا کتاب محمد بن سلیمان یخبرنا أن جعفر بن محمد – أى الصادق علیهالسلام – قد مات… انا لله و انا الیه راجعون – ثلاثا – و أین مثل جعفر؟!.
ثم قال لى: أکتب.
فکتب صدر الکتاب، ثم قال: أکتب: ان کان أوصى الى رجل واحد بعینه فقدمه و اضرب عنقه.
قال – أبوأیوب النحوى -: فرجع الیه الجواب أنه قد أوصى الى خمسة: و أحدهم أبوجعفر المنصور، و محمد بن سلیمان – و الیه على المدینة – و عبدالله، و موسى – ابناه – و حمیدة – زوجته -»(4)
و لکم یعجبنى و یعجب کل ساخر و مستهزىء هذا البکاء من الخلیفة، لأنه کبکاء التماسیح. فانه بعد أن ارتقى منبر رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم، أرعب ابنه الامام الصادق علیهالسلام، و أمر باحراق بیته علیه، ثم لما مات تظاهر بأنه یبکیه!.
و یأمر بضرب عنق من أوصى له لأنه یکون الامام من بعده!. فتأمل، واحکم.
«و عن النضر بن سوید، نحو هذا الحدیث السابق، الا أنه قال:
«أوصى الى خمسة: أولهم أبوجعفر المنصور، ثم عبدالله، و موسى، و محمد بن جعفر، و مولى لأبى عبدالله علیهالسلام.
فقال المنصور: مالى الى قتل هؤلاء سبیل»(5)
و الروایة الأولى أصح… و مع ذلک تعجبنى و تعجب کل ساخر و مستهزىء دموع الممثلات على خشبة المسرح، فانها دموع تکون تحت الطلب، و لا علاقة لما بمشاعر صاحبها و أحاسیسه، لأنها أقرب الى العهر و الفجر. و هذا الخلیفة – لنبى لم یطلب أجرا على أداء الرسالة الا مودة قرباه – یبکى لخبر موت ابنرسول الله، و هو أعرف بموته ممن أخبره، لأنه هو الآمر بقتله سما… و الآمر بعدها- بضرب عنق وصیه -.
فیا عنق السوء و عین الشیطان، ما ذنب من یوصى له الامام حتى یجوز لک ضرب عنقه؟!. لقد کان الامام الصادق صلوات الله و سلامه علیه و تحیاته و برکاته، کان یعلم غباءک و یعرف حمقک و سوء سریرتک، و لذلک أوصى – أول ما أوصى – الیک لیلقمک حجرا، ولیضع فى فیک التراب، ولیفضح أحدوثتک کما فضح آباؤه الکرام أسلافک اللئام، و لیبقى کیدک فى نحرک غصة فى صدرک، ولیجعلک تموت بغیظک و لا تبلغ حاجتک من ابنه الکریم و وصیه العظیم.
فسحقا لخلفاء تربعوا باسم الدین، ثم عملوا عمل الشیاطین…
و وردت الروایة السابقة على الشکل التالى:
«دعا أبوجعفر المنصور، فى جوف اللیل، أبا أیوب الخویزى، فلما أتاه رمى کتابا الیه و هو یبکى، و قال: هذا کتاب محمد بن سلیمان، یخبرنا أن جعفر بن محمد – الصادق علیهالسلام – قد مات!. فانا لله، و انا الیه راجعون. و أین مثل جعفر!.
ثم قال له: أکتب: ان کان أوصى الى رجل بعینه، فقدمه و اضرب عنقه.
فکتب، و عاد الجواب: قد أوصى الى خمسة، أحدهم أبوجعفر المنصور، و محمد بن سلیمان – و الیه فى المدینة – و عبدالله – ابنالامام – و موسى – ابنه الکاظم علیهالسلام – و حمیدة – زوجته العظیمة-!.
قال المنصور: ما الى قتل هؤلاء سبیل»(6)
فیا أباجعفر – المخذول – تبکى الامام و تسترجع، و لا ترى مثیلا للامام الصادق علیهالسلام بین الناس، ثم تکتب لعمیلک غیر المحمد و غیر المحمود بضرب عنق الامام الذى أوصى له؟!. فأنت تتأسف على الراحل بعد أن لطخت یدیک بدمه بعد حرق منزله، فما معنى دموعک أیها المتحجر القلب؟!. و العجیب من عینک کیف تدمع و قلبک فى مثل قساوة الصخر، و هو فى صدر حامل غل و جبروت؟!.
ان من کان بکاء على العظماء رقیق الحاشیة، مرهف الحس، لا یکتب لوالیه: أحرق، دس السم، أقتل!. و بدون ذنب و لا مبرر… فلا أدرى ما هى موازینکم الشرعیة أیها الخلفاء المتنازون على منبر رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم،
کما تتنازى القردة؟. لقد ارتضیتموها خلافة ظلم، و فتک، و سفک دماء، و سلطان أیام فى الدنیا یؤدى الى خلود فى النار؟!. فتعسا لملک ملطخ بدماء الأبریاء، انقضت مدته، و حملتم وزره، و ذقتم مر نتائجه حین قدمتم الى المعاد بشر زاد.
لم یعرفکم حق المعرفة سوى أئمتنا علیهمالسلام، و غش بریق ذهبکم، و بریق سیوفکم فوق الرقاب، جمیع معاصریکم، ما عدا بعض المؤمنین و الصالحین، ثم غش التاریخ المزور کل من جاء بعدکم… فسموکم خلفاء!.
نعم عرفکم امامنا الصادق علیهالسلام، الذى لما رأى فى عهده جده الرسول الأعظم صلى الله علیه و اله و سلم، أن أباجعفر المنصور سیقتله بالسم، ثم یأمر بقتل وصیه من بعده، أوصى لخمسة جعل أولهم أباجعفر المنصور… و دفن غیظک فى قلبک الأسود… و أبقاه دفینا معک فى لحدک لتبعث على عداوة الأبرار الأطهار…
قال داود بن کثیر الرقى: «أتى أعرابى الى أبىحمزة الثمالى، فسأله خبرا فقال: توفى جعفر الصادق.
فشهق شهقة و أغمى علیه.
فلما أفاق قال: هل أوصى الى أحد؟.
قال: نعم، أوصى الى ابنه عبدالله، و موسى، و أبىجعفر المنصور.
فضحک أبوحمزة و قال: الحمدلله الذى هدانا الى المهدى، و بین لنا عن الکبیر، و دلنا على الصغیر، و أخفى عن أمر عظیم.
فسئل عن قوله، فقال: بین عیوب الکبیر – یعنى عبدالله – و دل على
الصغیر لاضافته الیه، و کتم الوصیة للمنصور – أى عن المنصور – لأنه لو سأل المنصور عن الوصى،لقیل: أنت»(6)
فبورک بالفهم السلیم الذى رباه فیک أئمتنا علیهمالسلام یا أباحمزة!.
و أین حماقة أبىجعفر المنصور، و بلادة ذهنه عن ادراک ما أدرکت من فحوى وصیة الامام الصادق علیهالسلام؟!. لقد دل الامام على عیوبک یا منصور بوصیته، و نبه فیها الى أنک تبیت أمرا عظیما تهتز له الأفلاک!. فکتم حقیقة وصیته عنک، و علم – سلفا – بأنک تقصر عن تحدید الوصى الحقیقى بذاته و صفاته، کما یحدده الشیعة الذین رباهم امامهم الصادق سلام الله علیه.
1) أنظر ینابیع المودة ج 3 ص 10.
2) سورة المطففین: 12.
3) الکافى م 1 ص 319 و الارشاد ص 287.
4) الکافى م 1 ص 310 و اعلام الورى ص 290 رواه عن أبىأیوب الخوزى، و ما ذکرناه أصح، و هو فى حلیة الأبرار ج 2 ص 291.
5) اعلام الورى ص 290.
6) مناقب آل أبىطالب ج 4 ص 320.