کانت لأبى الحسن الکاظم علیهالسلام مکانة مرموقة بین جمیع معاصریه على اختلاف أهوائهم، ذلک أنه کان یتحلى بمزایا فذة لم یشارکه فیها أحد مطلقا. و لقد ظهر من خلقه السمح، و سماته الطیبة، و تدینه العجیب ما فتن به الألباب و انتزع به التقدیر و الاجلال من سائر من عرفه؛ فکان ذا هیبة علویة علویة تأخذ بمجامع القلوب فیتخاذل دونها الأمیر و الوزیر، و العالم و السوقة؛ و هذا هو الذى أو غر علیه صدور الحکام و عبدة السلطان و أقلقهم، فبیتوا له ما لا یرضاه الله تعالى، و عاملوه بمنتهى القسوة و بکامل الجفوة.
و هو – بالحقیقة – حامل الرسالة، و ناقل الکلمة الفصل اذا اختلط فقهاء الدین و اختبط العلماء فى تفسیر القرآن و بیان السنة و الأحکام، لأنه علیهالسلام من بیتها و زیتها؛ و لقد قال أخوه على بن جعفر:
«قال أبوعبدالله – الصادق علیهالسلام -: ان الله عزوجل خلقنا فأحسن خلقنا، و صورنا فأحسن صورنا، و جعلنا خزانه فى سمائه و أرضه. و لنا نطقت الشجرة، و بعبادتنا عبدالله عزوجل، و لولا نا ما عبدالله».(1)
نعم، لو لا هم ما عبدالله حق عبادته، فرسول الله صلى الله علیه و اله و سلم کان البشیر
النذیر، و على أمیرالمؤمنین علیهالسلام کان ما حى الکفر و أهله، و الحسن أبقى على الدین یوم کادت تتجدد الوثنیة على ید معاویة مجدد الأمویة، و الحسین أحیا شهادة أن لا اله الا الله، و أن محمدا رسول الله، و الامام زینالعابدین أنعش الدین فى قلوب البقیة من المؤمنین، و الباقر و الصادق علما هذه الأمة و کانا الفقیهین و الأستاذین لمدرسة خرجت الأبدال من الرجال، و على ذلک درج سائر الأئمة من أهل هذا البیت الکریم… فنعم و نعم، لولاهم ما عبدالله حق عبادته، فان أکثر المصلین کانوا من عبدة الشیاطین و ممن حاکوا المؤامرات، و أحکموا المکائد و الافتراءات أثناء الصلاة!. فى حین أن الأئمة علیهمالسلام لم یطمعوا فى ملک، و لا استهواهم شىء من زخرف الحیاة، و لا فاهوا بکلمة، و لا رفعوا صوتا الا لاحقاق حق أو ابطال باطل. و هذا هو الذى جعل الناس یتعلقون بحبل ولائهم، و جعل عبید الدنیا یطاردونهم لینفض الناس من حولهم، بل کانوا ینکلون بشیعتهم و محبیهم و یقتلونهم على الظن و التهمة کى یستقیم لهم أمر دنیاهم.
و هم علیهمالسلام علماء ملهمون، محدثون مفهمون، علمهم لدنى مخلوق معهم، فلا یحتاجون الى أحد، و یحتاج الیهم کل أحد، فعن على السائى، عن امامنا الکاظم علیهالسلام أنه قال:
«مبلغ علمنا على ثلاثة وجوه: ماض، و غابر، و حادث. – الغابر هنا بمعنى الآتى -. فأما الماضى فمفسر، و أما الغابر فمزبور- أى مذکور و مکتوب عندهم فى عهد الولایة. و أما الحادث فقذف فى القلوب، و نقر فى الأسماع، و هو أفضل علمنا – أى أنه الهام و کلام حسب المناسبة… و لا شىء بعد نبینا.»(2) أى لا یوحى الیهم و لا یتلقون أحکاما جدیدة مطلقا.
من أجل هذه المرتبة الالهیة السامیة، تنمر لهم هواة التسلط على رقاب العباد؛ فقد روى محمد بن فضیل أن امامنا الکاظم علیهالسلام قال فى قول الله تبارک و تعالى: (أم یحسدون الناس على ما ءاتائهم الله من فضله): نحن المحسودون.»(3) و حسدهم لم یخف على أحد الیوم و لا قبل الیوم، مع أنهم مفترضوا الطاعة من قبل الله تبارک و تعالى. فکیف سوغ الناس لأنفسهم عصیان أوامر الله و أوامرهم الرامیة الى مصلحة عباد الله لا أکثر و لا أقل، فلم یدعوا لأنفسهم و لا رغبوا فى حطام. و لا استهواهم تسلط و لا طمع.
و لقد قال معمر بن خلاد:
«سأل رجل فارسى أباالحسن علیهالسلام: طاعتک مفترضة؟
قال: نعم.
قال: مثل طاعة على بن أبىطالب علیهالسلام؟
فقال: نعم.»(4)
فمن عصاهم فى حلال الله تعالى و حرامه، و سائر أحکامه، فقد عصى رسول الله صلى الله علیه و آله و سلم، و عصى ربه عزت قدرته، و لا أمر بین الأمرین، فقد حدث أخوه على بن جعفر أنه علیهالسلام قال:
«نحن فى العلم و الشجاعة سواء، و فى العطایا على قدر ما نؤمر.»(5)
فلا فرق بینهم صغارا کانوا أم کبارا، لأن علمهم من الجامعة السماویة الوحیدة، و قد قال الصدوق رحمه الله:
«قد اشتهر فى الناس أن أباالحسن موسى علیهالسلام، کان أجل ولد
الصادق علیهالسلام شأنا، و أعلاهم فى الدین مکانا. و کان أعبد أهل زمانه، و أعلمهم و أفقههم».(6)
و قال ابنشهرآشوب: «و کان أجل الناس شأنا، و أعلاهم فى الدین مکانا، و أسخاهم بنانا، و أفصحهم لسانا، و أشجعهم جنانا؛ قد خص بشرف الولایة، و حاز ارث النبوة، و بوىء محل الخلافة».(7)
و قال ابنالجوزى: «کان یدعى العبد الصالح لأجل عبادته و قیامه باللیل، و کان کریما، حلیما، اذا بلغه عن رجل أنه یؤذیه بعث الیه بمال».(8)
و قال على بن عیسى الإربلى: «مناقب الکاظم علیهالسلام و فضائله و معجزاته الظاهرة، و دلائله و صفاته الباهرة، و مخائله تشهد أنه انتزع قبة المجد و علاها، و سما الى أوج المزایا فبلغ أعلاها، و ذللت له کواهل السیادة فرکبها و امتطاها، و حکم فى غنائم المجد فاختار صفایاها و اصطفاها، طالت أصوله فسمت الى أعلى رتب الجلال، و طابت فروعه فعلت الى حیث لا تنال؛ یأتیه المجد من کل أطرافه، و یکاد الشرف یقطر من أعطافه».(9)
و قال العلامة القندوزى: «و من أئمة أهل البیت أبوالحسن موسى الکاظم بن جعفر الصادق رضى الله عنهما. و کان رضى الله عنه صالحا، عابدا، جوادا، حلیما، کبیر القدر».(10)
و روى عن الخطیب البغدادى، و هو من أعاظم أهل السنة، و ثقات
المؤرخین و قدمائهم، أنه قال: «کان موسى علیهالسلام یدعى العبد الصالح من شدة عبادته و اجتهاده».(11)
ثم ذکر عند الخطیب البغدادى فى (تاریخه) و السمعانى فى (الرسالة القوامیة) و أبوصالح، أحمد، فى (الأربعین) و أبوعبدالله بن بطة فى (الإبانة) و الثعلبى فى (الکشف و البیان) قالوا: «و کان أحمد بن حنبل، مع انحرافه عن أهل البیت علیهمالسلام لما روى عنه قال:
حدثنى موسى بن جعفر، قال: حدثنى أبى، جعفر بن محمد، قال: حدثنى أبى، محمد بن على، قال: حدثنى أبى، على بن الحسین، قال: حدثنى أبى، الحسین بن على، قال: حدثنى أبى، على بن أبىطالب علیهالسلام، قال: قال رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم… ثم قال أحمد بن حنبل و هذا اسناد لو قرىء على المجنون لأفاق».(12)
و صدق الامام ابنحنبل بقوله فیهم هذا القول، بل یصدق کل من یعطیهم حقهم و یقول فیهم قولا کریما، لأنهم أولو العلم الذین لم یسبقهم سابق، و لا یلحقهم لاحق، و لأنهم لم یصانعوا سوى وجه ربهم، و لا طمعوا فى غیر رضاه. هکذا خلقهم الله، و على ذلک برأهم و أنشأهم… و من أحسن من الله صنعا؟!
علمهم من علم الله تعالى، و قد أطلعهم على ما کان، و على ما سیکون فى سابق علمه و تقدیره لئلا تخفى علیهم خافیة مما یجرى حولهم فتبطل حجتهم على الناس. و قد قال لأبى الحسن علیهالسلام رجل من فارس:
أتعلمون الغیب؟
فقال: قال أبوجعفر – أى جده الباقر علیهالسلام -: یبسط لنا العلم فنعلم، و یقبض عنا فلا نعلم. و قال: سر الله عزوجل أسره الى جبرائیل علیهالسلام، و أسره جبرائیل الى محمد صلى الله علیه و اله و سلم، و أسره محمد الى من شاء الله»(13) أى الى وصیه أمیرالمؤمنین علیهالسلام، فأسره على و بنوه المعصومون علیهمالسلام واحد الى واحد فهم حاملو مواریث النبوة الى الأبد، دون أن یحتاجوا الى موافقة من یوافق، و من غیر أن یطعن فى ذلک رفض من یرفض… و قد روى محمد بن حکیم عن امامنا الکاظم علیهالسلام أنه قال له:
«السلاح موضوع عندنا – و هو یعنى مواریث النبوة – مدفوع عنه. و لو وضع عند شر خلق الله کان خیرهم. لقد حدثنى أبى أنه حیث بنى بالثقفیة – أى تزوجها – و کان قد شق له فى الجدار – أى للسلاح – فنجد البیت – یعنى جعل له رفوفا و فرشا- فلما کانت صبیحة عرسه رمى ببصره فرأى حذوه – أى بجانب الشق – خمسة عشر مسمارا؛ ففزع لذلک، و قال لها: تحولى – اخرجى من البیت – فانى أرید أن أدعوا موالى فى حاجة. فکشطه – یعنى نزع الطین عنه – فما منها مسمارا الا وجده مصروفا طرفه عن السیف، و ما وصل الیه منها شىء».(14)
فهل ذلک السلاح سوى آلة امامة الناس الموروثة عن الأنبیاء لأنها من مستلزمات السفارة السماویة التى تجهز هذا المنصب بکل مقومات الولایة و القیام بالأعمال السماویة؟. انها هى لو عقلنا، لأن الله عزوعلا ما کان لینتدب لأمره مخلوقا أعزل، بل لا بد من أن ییسر له أن یقول للشىء کن، فیکون، باذنه جلت قدرته. فعن أحمد بن حماد، عن ابراهیم، عن أبیه، عن أبىالحسن الأول علیهالسلام – أى الکاظم – قال:
«قلت له: جلعت فداک، أخبرنى عن النبى صلى الله علیه و اله و سلم، ورث النبیین کلهم؟!
قال: نعم.
قلت: من لدن آدم حتى انتهى الى نفسه؟
قال: ما بعث الله نبیا الا و محمد صلى الله علیه و اله و سلم أعلم منه.
قلت: ان عیسى بن مریم کان یحیى الموتى باذن الله.
قال: صدقت.
قلت: و سلیمان بن داود کان یفهم منطق الطیر، و کان رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم یقدر على هذه المنازل؟!
قال: ان سلیمان بن داود قال للهدهد حین فقده و شک فى أمره:
(فقال مالى لا أرى الهدهد أم کان من الغائبین (20))(15) حین فقده؛ فغضب علیه فقال: (لأعذبنه عذابا شدیدا أو لأاذبحنه، أو لیأتینى بسلطان مبین (21))(16) و انما غضب لأنه کان یدله على الماء.
فهذا، و هو طائر، قد أعطى ما لم یعط سلیمان؛ و قد کانت الریح و النمل، و الانس و الجن، و الشیاطین المردة له طائعین، و لم یکن یعرف الماء تحت الهواء و کان الطیر یعرفه!. و ان الله یقول فى کتابه: (و لو أن قرءانا سیرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو کلم به الموتى…)(17) و قد ورثنا نحن هذا القرآن الذى فیه ما نسیر به الجبال، و نقطع به البلدان، و تحیا به الموتى. و نحن نعرف الماء تحت الهواء؛ و ان فى کتاب الله لآیات ما یراد
بها أمر الا أن یأذن الله به مع ما قد یأذن الله مما کتبه للماضین، جعله الله لنا فى أم الکتاب. ان الله یقول: (و ما من غائبة فى السماء و الأرض الا فى کتاب مبین (75))(18) ثم قال: (ثم أورثنا الکتاب الذین اصطفینا من عبادنا…)(19) فنحن الذین اصطفانا الله عزوجل، و أورثنا هذا الذى فیه تبیان کل شىء».(20)
نعم انهم مصطفون على علم من الله سبحانه، و لا یقاس بهم أحد، و أمرهم لا ینسحب على أحد من العالمین…
قال أنس بن مالک رضى الله عنه:
«قال رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم: نحن أهل بیت لا یقاس بنا أحد»(21) و قد أخرجه الملا، و صححه رواة الحدیث من کافة الفرق الاسلامیة. کما أنه قد صح عن نبینا صلى الله علیه و اله و سلم قوله:
«لا یحبنا، أهل البیت، الا مؤمن تقى، و لا یبغضنا الا منافق شقى»(22)
فالاعتراف بما هم فیه و علیه من السهولة بمکان عند من یؤمن بالله و رسله و کتبه و ملائکته؛ کما أنه من الصعوبة بمکان لدى من یجحد فضل أهل الفضل و ینفس بالنعمة على غیره و لو کانت من غیره. و ان أمر الأئمة لصعب مستصعب فى کلا الحالین أیضا لأن المحب لا یصبر علیه حتى یبوح به الى غیره من المحبین، و المعادى «لا یرید» أن یستوعب أمرهم، بل یحشو
أذنیه قطنا لئلا یسمع فیهم، أو منهم، شیئا… و لینطح الجبل اذا شاء فعسى أن یبرد غلیله…
«قال على بن یقطین: قلت لأبىالحسن، موسى بن جعفر علیهالسلام:
أیجوز أن یکون نبى الله عزوجل بخیلا؟
فقال: لا.
فقلت له: فقول سلیمان علیهالسلام: (… رب اغفرلى وهب لى ملکا لا ینبغى لأحد من بعدى…)(23) ما وجهه، و ما معناه؟
فقال: الملک ملکان: ملک مأخوذ بالغلبة و الجور و اختیار الناس، و ملک مأخوذ من قبل الله تبارک و تعالى، کملک آل ابراهیم، و ملک طالوت، و ذى القرنین. فقال سلیمان علیهالسلام: (… وهب لى ملکا لا ینبغى لأحد من بعدى…)(23) أن یقول انه مأخوذ بالغلبة و الجور و اختیار الناس، فسخر الله تبارک و تعالى له الریح تجرى بأمره رخاء حیث أصاب، و جعل غدوها شهرا، و رواحها شهرا؛ و سخر له الشیاطین کل بناء و غواص؛ و علم منطق الطیر، و تمکن فى الأرض، فعلم الناس فى وقته و بعده أن ملکه لا یشبه ملک الملوک المختارین من قبل الناس، و المالکین بالغلبة و الجور.
فقلت له: فقول رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم: رحم الله أخى سلیمان ما کان أبخله؟!
فقال: لقوله و جهان: ما کان أبخله بعرضه و سوء القول فیه. و الوجه الآخر یقول ما کان أبخله ان کان أراد ما یذهب الیه الجهال.
ثم قال علیهالسلام: قد والله أوتینا ما أوتى سلیمان، و ما لم یؤت سلیمان، و ما لم یؤت أحد من العالمین!. قال الله عزوجل فى قصة سلیمان: (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسک بغیر حساب (39))(24) و قال فى قصة محمد صلى الله علیه و اله و سلم: (… و مآءاتاکم الرسول فخذوه و ما نهاکم عنه فانتهوا…).(25)
فهم أهل أمر و نهى یصدرون بذلک عن السماء؛ و قولهم ینبغى أن یکون مسموعا لأنه عن الله عز اسمه؛ و هم عیبة علمه، و مستودع سره، و أمناؤه على وحیه و عزائم أمره. و قد قدر سبحانه ذلک لهم دون أن یستشیر أحدا من خلقه لأنه لا شریک له، و لا ینزع سربالهم الذى ألبسهم ایاه ربهم بخلنا به، و لا رفضنا له، و لا اعتراضنا علیه… و یکفى فى هذا الموضوع أن نورد ما قاله معاویة بن أبىسفیان الذى قال: «سمعت رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم یقول:
«ان هذا الأمر فى قریش، لا یعادیهم أحد الا أکبه الله على وجهه ما أقاموا الدین»(26) و قد قالها لنا أبویزید لیجر النار الى قرصه، ولکنه خرج من قول رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم بما ابتدع فى الدین، و ان کان من قریش فى جناحها الذى ضل و حارب النبى و دعوته و حزب لذلک الأحزاب!.
أما سیدنا الامام الکاظم علیهالسلام، فهو من ذروة قریش و سنامها، و هو ابنرسولالله صلى الله علیه و اله و سلم، سید ولد آدم، القائل:
«ما بال أقوام یزعمون أن قرابتى لا تنفع؟!. ان کل سبب و نسب ینقطع یوم القیامة، الا سببى و نسبى. و ان رحمى موصولة فى الدنیا و الآخرة»(27)
فعن أبىهریرة أن سبیعة بنت أبىلهب رضى الله عنها، جاءت الى النبى صلى الله علیه و اله و سلم، فقالت: یا رسول الله، ان الناس یقولون: أنت بنت حطب النار!. فقام رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم و هو مغضب فقال:
ما بال قوم یؤذوننى فى قرابتى؟!. من آذى قرابتى فقد آذانى، و من آذانى فقد آذى الله».(28)
أفلا یحسن بالمسلمین أن یسمعوا کلام الله و کلام رسوله العظیم الذى لا ینطق عن الهوى؟. لقد آن أن یخجلوا منهما، و یعملوا بقولهما؟. بلى، و لو کان عند المسلم بقیة من حیاء لذکر أن له موقفا بین یدى الله و رسوله حین لا ینفع الندم نادما. و من اللیاقة أن یتمسک المسلم بالمبادىء، التى اعتنقها، و أن یدور فى فلک مبادئه و عقیدته. اما أن یسمع من نبیه شیئا و یسد أذنیه عن شىء، فهذا لیس من الایمان فى حال. بل نحن نبالغ فنقول: یجب على المسلم أن یتعصب لرب خلقه و رزقه و کفل حیاته، و لرسول هداه الى الصراط المستقیم، و عمل على تخلیصه من النار و الجحیم. فان من اخلاص المرء لقضیته أن ینسجم معها، و لا یؤمن ببعض مقوماتها و یکفر ببعض… و کیف نسمى أنفسنا مسلمین، و لا نعمل بعقیدة الاسلام ککل لا یتجزأ؟. هذا ما ینبغى أن لا یکون… و هو کله فى أعناق أئمة الجور الذین وقفوا فى وجه کلمة الله الصافیة المصفاة، و حجبوها عن الناس، و وضعوا فى طریقها القیود و السدود، و أوقفوا مسیرة الدین، و داسوا – بکبریائهم – جمیع مقدسات الله لیؤثلوا ملکا عضوضا قام على جماجم أهل الحق… ولکنهم لم یعضوا السماء، و لا خربوا نظام الشمس، بل بقیت القافلة تمشى و هم
یلهثون وراءها و وراء عیش انقضى، فطحنهم البلى بکلکله، و باؤوا بخزى الدنیا و الآخرة.
«قال محمد بن منصور: سألت عبدا صالحا – أى الامام الکاظم علیهالسلام – عن قول الله عزوجل: (قل انما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها و ما بطن…).(29)
فقال: ان القرآن له ظهر و بطن؛ فجمیع ما حرم الله فى القرآن هو الظاهر، و الباطن من ذلک أئمة الجور. و جمیع ما أحل الله تعالى فى الکتاب هو الظاهر، و الباطن من ذلک أئمة الحق».(30)
فأبو الحسن امام، ابنأئمة، و أبوأئمة حملوا أمانة الله الى الناس، و قالوا کلمة العدل فى وجه الحاکم الظالم، و کفخوا فقهاء السوء فى القصور، و انسجموا مع الحق الذى حملوه عن ربهم فى أشد أزمنة الظلم و الغشم، غیر هیابین و لا وجلین،و لا قوا فى سبیل ذلک تشریدا، و حبسا.. و قتلا. و لم ترع فیهم قرابة نبى و لا سفارة سماء!. ولکنهم ظلوا مع الحق و جاهروا به، و ضربوا مثلا أعلى فى الخلق الرفیع، و کانوا خیر أنموذج للانسان الکامل الذى یسفح أنانیته فى سبیل تبلیغ دعوة ربه، و بسبیل اصلاح مجتمعه.
…«ومر – امامنا الکاظم علیهالسلام – برجل من أهل السواد، دمیم المنظر – أى قبیح الوجه – فسلم علیه و نزل عنده، و حادثه طویلا. ثم عرض علیه نفسه فى القیام بحاجة ان عرضت له.
فقیل له: یابن رسول الله، أتنزل الى هذا، و تسأله عن حوائجه و هو الیک أحوج؟!.
فقال علیهالسلام: عبد من عبیدالله، و أخ فى کتاب الله، و جار فى بلاد الله، یجمعنا و ایاه خیر الآباء آدم علیهالسلام، و أفضل الأدیان الاسلام. و لعل الدهر یرد من حاجاتنا الیه، فیرانا – بعد الزهو علیه – متواضعین بین یدیه. ثم قال علیهالسلام:
نواصل من لا یستحق وصالنا++
مخافة أن نبقى بدون صدیق»(31)
و انه لمن الخلق العظیم الذى کان یمتاز به جده الأعظم محمد صلى الله علیه و اله و سلم، حیث کان یجالس أهل الصفة من فقراء المسلمین حین کانوا یأوون الى البقیع فى المدینة المنورة لیتلقوا صدقات الناس و لیأکلوا مما یقدمونه لهم؛ ثم کان یحادثهم، و یأکل معهم، و یمنحهم کل عنایة و رعایة… و هذه هى أخلاق الأنبیاء الذین صدعوا بدعوة السماء، و جاؤوا لیعلموا الناس الخلق الکریم، و السیرة الفاضلة.
أما کبراؤنا و أغنیاؤنا فیتجنبون مجالسة مثل هذا الرجل الفقیر، و لا یحتکون به لئلا یلتصق بهم فقره!.
و من خلقه السامى: ما حدث به حماد بن عثمان الذى قال:
«بینا موسى بن عیسى(32) فى داره التى فى المسعى، أشرف على المسعى اذ رأى أباالحسن علیهالسلام مقبلا من المروة على بغلة. فأمر ابنهیاج(33) أن یتعلق باللجام و یدعى البغلة فأتاه، فتعلق باللجام، فادعى البغلة.
فثنى أبوالحسن علیهالسلام رجله فنزل عنها و قال لغلمانه: خذوا سرجها و ادفعوها الیه.
فقال الهمدانى – ابنهیاج -: و السرج أیضا.
فقال أبوالحسن علیهالسلام: کذبت، ان عندنا البینة بأن السرج سرج – بغلة – محمد بن على علیهالسلام – أى اشتراه جده – و أما البغلة فانا اشتریناها منذ قریب، و أنت أعلم و ما قلت!»(34)
أجل یا سیدى، هو أعلم و ما قال من کذب و افتراء. و قد عرفت کیف تفضح کذبه، و کیف تدوس برجلک کبریاء سیده موسى بن عیسى، البارک على شرفة منزله کما یبرک البعیر. و لو حاول الانسان أن یتکلم حول صبرک على ألأذى و الظلم لخانه بیانه، واستعصت علیه اللغة التى نعرفها، فأنت من شجرة النبوة التى أصلها ثابت و فرعها فى السماء… و أنت یا موسى بن عیسى: مت بغیظک و حسدک و حقدک فانک دون هذه المعارک الشریفة التى یخسر فیها المبطلون!. و بغلک الهمدانى، ابنهیاج، تصرف تصرف الأحمق الذى أشار علیه عتل زنیم، فأطاه و کان مثله عتلا زنیما.
«و قال على بن حمزة: رأیت أباالحسن علیهالسلام یعمل فى أرض له. و قد استنقعت قدماه من العرق؛ فقلت له: أین الرجال؟!.
فقال: یا على، قد عمل بالید من هو خیر منى فى أرضه، و من أبى.
فقلت: و من هو؟!.
فقال: رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم، و أمیرالمؤمنین علیهالسلام، و آبائى کلهم قد عملوا بأیدیهم؛ و هو من عمل النبیین و المرسلین و الأوصیاء و الصالحین».(35)
فمرحى لسلیل الأطهار الذین خلقهم ربهم قدوة للعالمین، و هداة للدین، یسعون فى مناکب الأرض، و یأکلون من رزق الله الحلال الطیب بکد أیدیهم..
و انکم یا سیدى لکما قال جدکم الأکرم صلى الله علیه و اله و سلم: «یا على ما عرف الله الا أنا و أنت، و ما عرفنى الا الله و أنت، و ما عرفک الا الله و أنا…» و ان الذین کادوا لکم، و أزالوکم عن مراتبکم قد رحلوا عن الدنیا بأوزار ینوء بها الجدار…(ورد الله الذین کفروا بغیظهم لم ینالوا خیرا…)(36)
أجل، هذه هى العظمة التى تنتهى دونها کل عظمة!.
فان رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم، الذى هو أشرف الخلق لم یعش على حساب تعب الآخرین، بل کان یعمل بیده، و لا یأکل الصدقة – و ان کان یقبل الهدیة -. و کان یضرب أعظم مثل اجتماعى یشجع به الناس على العمل المثمر الذى یسد الحاجة، و یغنى عن تکلف ما فى أیدى الناس… ثم حذا حذوه وصیه أمیرالمؤمنین سلام الله علیه، و سائر أوصیائه، لأن هذا من شأن الرسل و أوصیائهم و الصالحین من الناس.
و ان امامنا الکاظم علیهالسلام لیرى العز کل العز فى أن تستنقع قدماه بالعرق، و یرى الذل کل الذل فى أن یقف أمام مخلوق یطلب عطاءه ورفده.
1) الکافى م 1 ص 193.
2) الکافى م 1 ص 264.
3) الآیة فى النساء: 54 و الحدیث فى الکافى م 1 ص 206.
4) الکافى م 1 ص 187.
5) المصدر السابق ص 275.
6) مناقب آل أبىطالب ج 4 ص 323.
7) المصدر السابق.
8) کشف الغمة ج 3 ص 40 و تذکرة الخواص ص 312.
9) کشف الغمة ج 3 ص 46.
10) ینابیع المؤدة ج 3 ص 33.
11) الأنوار البهیة ص 161.
12) مناقب آل أبىطالب ج 4 ص 317 – 316.
13) الکافى م 1 ص 256.
14) المصدر السابق ص 235 و هو فى بصائر الدرجات ج 4 ص 181 عن یونس بن عبدالرحمان.
15) سورة النمل: 20.
16) سورة النمل: 21.
17) سورة الرعد: 31.
18) سورة النمل: 75.
19) سورة فاطر: 32.
20) الکافى م 1 ص 226 و بصائر الدرجات ج 1 ص 48-47.
21) ذخائر العقبى ص 17 و هو فى أکثر المصادر الاسلامیة المعتبرة.
22) المصدر السابق ص 18 و هو مکرر فى کتب کثیرة.
23) سورة ص: 35.
24) سورة ص: 39.
25) سورة الحشر: 7 و الخبر فى معانى الأخبار ص 353.
26) ذخائر العقبى ص 12.
27) المصدر السابق ص 6.
28) المصدر السابق ص 7.
29) سورة الأعراف: 33.
30) الکافى م 1 ص 334.
31) تحف العقول ص 305.
32) هو الوالى على البصرة من قبل العباسیین.
33) هو رجل من همدان کان منقطعا الیه.
34) حلیة الأبرار ج 2 ص 289 نقلا عن الوافى ج 2 ص 189.
35) حلیة الأبرار ج 2 ص 279 و المحجة البیضاء ج 4 ص 147.
36) سورة الاحزاب: 25.