لسنا الآن بصدد التعرض الى تفاصیل أسباب سجن الإمام من قبل الرشید. لأن سلوک الإمام وتأثیره فی الاُمة کما عرفت کان کافیاً لأن یدفع بالرشید الذی لا یتبنى حکمه على اُصول مشروعة لیخطط لسجن الإمام(علیه السلام) وبالتالی اغتیاله، هذا فضلا عن کون الرشید قد قطع على نفسه بدایة تسلّمه للحکم بأن سوف یستأصل الوجود العلوی فإذا کان هذا شعاره أول الأمر مع کل العلویین فکیف بزعیم العلویین وقائدهم وسیدهم.
وینبغی أن نفرق بین الاسباب الواقعیة وبین الاسباب التی کان یتذرع بها الرشید لتبریر سلوکه العدائی مع الإمام(علیه السلام).
لقد أصبح الإمام بعد عقد من حکم الرشید وجوداً ثقیلا على هارون لقوة تأثیره فی الاُمة واتساع الامتداد الشیعی حتى وجدناه یقدر المتطوعین فی جیش الإمام بمائة ألف سیف. من هنا ضاق صدره وازعجه انتشار صیت الإمام لأن الناس غدت تتناقل مآثر الإمام وعلمه وأخلاقه.
وکانت حادثة زیارة هارون لقبر الرسول(صلى الله علیه وآله) ولقاء الإمام به بحیث أغضب الرشید حتى قال بعدها مخاطباً الرسول(صلى الله علیه وآله): «بأبی أنت واُمی إنی
أعتذر الیک من أمر عزمت علیه، انّی اُرید أن آخذ موسى بن جعفر فأحبسه لأنی قد خشیت أن یلقی بین اُمتک حرباً یسفک بها دماءهم»(1)
وکان للوشاة دورٌ سلبی ضد الإمام(علیه السلام) فلقد تحرک یحیى بن خالد قبل ذلک لیهیئ مقدمات الاعتقال للإمام فأغرى ابن أخ الإمام محمد بن اسماعیل أو علی بن اسماعیل لغرض الوشایة بالإمام.
لنلاحظ موقف الإمام السامی ازاء تصرف ابن أخیه الشنیع بعد أن استجاب محمد لاغراء یحیى والتقى بالطاغیة فی بغداد وطعن بالإمام(علیه السلام) بما یرغب به الرشید.
عن علی بن جعفر بن محمد(علیه السلام) قال: «جاءنی محمد بن اسماعیل بن جعفر(2) یسألنی أن أسأل أبا الحسن موسى(علیه السلام) أن یأذن له فی الخروج الى العراق وأن یرضى عنه، ویوصیه بوصیة.
قال: فتنحیت حتى دخل المتوضأ وخرج وهو وقت یتهیأ لی أن أخلو به وأکلّمه.
قال: فلما خرج قلت له: إنّ ابن أخیک محمد بن اسماعیل سألک أن تأذن له بالخروج الى العراق، وأن توصیه، فأذن له(علیه السلام).
فلمّا رجع الى مجلسه قام محمد بن اسماعیل وقال: یا عمّ أحب أن توصینی.
فقال(علیه السلام): أوصیک أن تتقی الله فی دمی.
فقال: لعن الله من یسعى فی دمک ثم قال: یا عم أوصنی فقال(علیه السلام): أوصیک أن تتقی الله فی دمی.
قال: ثمّ ناوله أبو الحسن صرة فیها مائة وخمسون دیناراً فقبضها محمد، ثم ناوله اُخرى فیها مائة وخمسون دیناراً فقبضها، ثم أعطاه صرة أُخرى فیها مائة وخمسون دیناراً فقبضها، ثم أمر له بألف وخمسمائة درهم کانت عنده.
فقلت له فی ذلک، واستکثرته. فقال: هذا لیکون أوکد لحجتی إذا قطعنی ووصلته.
قال: فخرج الى العراق، فلما ورد حضرة هارون أتى باب هارون بثیاب طریقه من قبل أن ینزل، واستأذن على هارون، وقال للحاجب: قل لأمیر المؤمنین انّ محمد بن اسماعیل بن جعفر بن محمد بالباب.
فقال الحاجب: انزل أولا وغیّر ثیاب طریقک وعُد لادخلک علیه بغیر إذن، فقد نام أمیر المؤمنین فی هذا الوقت. فقال: أعلم أمیر المؤمنین أنی حضرت ولم تأذن لی.
فدخل الحاجب وأعلم هارون قول محمد بن اسماعیل، فأمر بدخوله، فدخل وقال: یا أمیر المؤمنین خلیفتان فی الأرض: موسى بن جعفر بالمدینة یُجبى له الخراج، وأنت بالعراق یُجبى لک الخراج؟! فقال: والله؟! فقال: والله!
قال: فأمر له بمائة ألف درهم فلما قبضها وحُمل الى منزله، أخذته الذبحة فی جوف لیلته فمات، وحوّل من الغد المال الذی حُمل الیه»(3)
هذه هی بعض الأسالیب التی کان قد خطط لها یحیى بایعاز من الرشید.
وأخیراً تم اعتقال الإمام(علیه السلام) بسرعة واخفاء وتعمیة على الاُمة لئلا تعرف محل سجن الإمام(علیه السلام).
1) عیون أخبار الرضا: 73 ح 3 والغیبة للطوسی: 28 وعن العیون فی بحار الأنوار: 48 / 213 ح 13.
2) فى بعض الروایات «محمد بن اسماعیل» وفى بعضها «علی بن اسماعیل».
3) اختیار معرفة الرجال: 263 ح 478 وراجع اُصول الکافی: 1 / 85 ح 8، واللفظ هنا له وفی الارشاد: 2 / 237 والغیبة للطوسی: 27 وفی مناقب آل أبی طالب: 4 / 332 باسم علی بن اسماعیل، وفی: 4 / 352 باسم محمد بن اسماعیل. وعن الکشی فی بحار الأنوار: 48 / 239 ح 48.