کان الرشید شدید الحساسیة والحقد على الإمام موسى الکاظم(علیه السلام) بالنسبة الى الخلفاء العبّاسیین الذین سبقوه، من هنا بدأ بمحاصرة الإمام ومراقبته بغیة شل حرکته ونشاطه، بطرق وأسالیب متعددة وملتویة ومتطوّرة تمثّلت فی الاستدعاءات المتعدّدة للبلاط ثم الاعتقالات المتکرّرة، ومحاولات الاغتیال بتصفیة أتباع الإمام(علیه السلام) وشیعته، وزجّ البعض فی السجون بعد بثّه للجواسیس بشکل مکثّف ورصد ومُتابعة کل حرکة تصدر من الإمام وأصحابه وإکرام الوشاة وتشجیعهم فیما إذا جاءوا بمعلومة سرّیة عن الإمام حتى انه کانت تقدم رؤوس العلویین کهدایا للرشید باعتبارها من الاُمور الثمینة عنده.
واستخدم الرشید سیاسته هذه مع الإمام على المدى البعید وأراد فیها تطویق الإمام(علیه السلام) وعزله بشکل تام وقطع کل أواصر الارتباط مع الاُمة.
واتّسمت سیاسة الرشید العدوانیة مع الإمام بأنها کانت منذ بویع للخلافة تراوحت بین السجن والاتّهام السیاسی مرّة والاکرام والتعظیم نفاقاً مرة اُخرى.
وسوف نستعرض مجموعة النصوص التی وردت فی هذا الصدد لنقف على مجموعة الأسالیب الصریحة والملتویة والمتطوّرة التی سلکها هذا الطاغیة لتصفیة حرکة أهل البیت (علیهم السلام) وأتباعهم.
الطائفة الاولى:
تتضمّن أسالیب الرشید مع الإمام والتی تدور بین اکرام الإمام مرة
والتخطیط لقتله مرّة اخرى، والاعتراف بکونه الإمام المفترض الطاعة مرّة ثالثة.
1 ـ جاء عن الفضل أنه قال: «کنت أحجب الرشید، فأقبل علیّ یوماً غضباناً، وبیده سیف یقلّبه. فقال لی: یا فضل بقرابتی من رسول الله(صلى الله علیه وآله) لئن لم تأتنی بابن عمی لآخذن الذی فیه عیناک.
فقلت: بمن أجیئک؟ فقال: بهذا الحجازی. قلت: وأیّ الحجازیین؟ قال: موسى بن جعفر بن محمد بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب.
قال الفضل: فخفت من الله عزّ وجلّ إن جئت به إلیه، ثم فکرت فی النقمة، فقلت له: أفعل. فقال: ائتنی بسوطَین وحصارَین(1) وجلاّدین.
قال: فأتیته بذلک ومضیت الى منزل أبی ابراهیم موسى بن جعفر(علیه السلام) فأتیت الى خربة فیها کوخ(2) من جرائد النخل فإذا أنا بغلام أسود.
فقلت له: استأذن لی على مولاک یرحمک الله. فقال لی: لج(3) لیس له حاجب ولا بوّاب. فولجت إلیه، فإذا أنا بغلام أسود بیده مقص یأخذ اللحم من جبینه وعرنین أنفه من کثرة سجوده.
فقلت له: السلام علیک یاابن رسول الله، أجب الرشید.
فقال: ما للرشید ومالی؟ أما تشغله نعمته عنّی؟ ثم قام مسرعاً، وهو یقول: لولا أنی سمعت فی خبر عن جدی رسول الله(صلى الله علیه وآله): إنّ طاعة السلطان للتقیة واجبة(4) إذن ما جئت.
فقلت له: استعد للعقوبة یا أبا ابراهیم رحمک الله، فقال(علیه السلام): ألیس معی من یملک الدنیا والآخرة، ولن یقدر الیوم على سوء لی ان شاء الله.
قال الفضل بن الربیع: فرأیته وقد أدار یده یلوح بها على رأسه ثلاث مرات.
فدخلت على الرشید، فإذا هو کأنه امرأة ثکلى قائم حیران فلمّا رآنی قال لی: یا فضل. فقلت: لبیک. فقال: جئتنی بابن عمّی؟ قلت: نعم. قال: لا تکون أزعجته؟ فقلت: لا. قال: لا تکون أعلمته أنی علیه غضبان؟ فإنی قد هیّجت على نفسی ما لم أرده، أئذن له بالدخول. فأذنت له.
فلمّا رآه وثب الیه قائماً وعانقه وقال له: مرحباً بابن عمی وأخی ووارث نعمتی، ثم أجلسه على مِخَدّة وقال له: ما الذی قطعک عن زیارتنا؟ فقال(علیه السلام): سعة ملکک وحبّک للدنیا.
فقال: ائتونی بحقة الغالیة(5) فاُتی بها فغلفه بیده، ثم أمر أن یحمل بین یدیه خلع وبدرتان دنانیر.
قال الفضل: فتبعته(علیه السلام) فقلت له: ما الذی قلت حتى کُفیت أمر الرشید؟
فقال: دعاء جدی علی بن أبی طالب (علیه السلام) کان إذا دعا به، ما برز الى عسکر إلاّ هزمه ولا الى فارس إلاّ قهره، وهو دعاء کفایة البلاء. قلت: وما هو؟ قال: قل:
اللهم بک أساور، وبک أُحاول (وبک أحاور)، وبک أصول، وبک انتصر، وبک أموت، وبک أحیا، أسلمت نفسی الیک، وفوّضت أمری الیک، لا حول ولا قوّة إلاّ
بالله العلی العظیم.
اللهم انک خلقتنی ورزقتنی وسترتنی، وعن العباد بلطف ما خوّلتنی أغنیتنی، وإذا هویت رددتنی، وإذا عثرت قوّمتنی، وإذا مرضت شفیتنی، وإذا دعوت اجبتنی یا سیدی ارض عنی فقد أرضیتنی»(6)
2 ـ یصوّر لنا عبدالله المأمون بن الرشید ذلک المستوى من الفهم الذی یمتلکه الرشید ازاء الإمام. والذی اعترف به من خلال الاکرام والاجلال الذی قام به الرشید للإمام الکاظم(علیه السلام) والذی یستبطن مدى الحقد والبغض، ویکشف هذا المشهد ثقل الإمام الشعبی الذی دفع بالرشید الى أن یفتعل هذا المشهد من أجل اضلال الجماهیر.
قال المأمون: لقد حججت معه (الرشید) سنة فلما صار الى المدینة تقدم الى حجابه وقال: لایدخلنّ علیّ رجل من أهل المدینة ومکة من أبناء المهاجرین والانصار وبنی هاشم وسائر بطون قریش إلاّ نسب نفسه، فکان الرجل اذا أراد أن یدخل علیه یقول: أنا فلان ابن فلان حتى ینتهی الى جدّه من هاشم أو قریش وغیرهما فیدخل ویصله الرشید بخمسة آلاف وما دونها الى مائتی دینار على قدر شرفه وهجرة آبائه.
فبینما أنا ذات یوم واقف إذ دخل الفضل بن الربیع فقال: یا أمیر المؤمنین على الباب رجل زعم انه موسى بن جعفر بن محمد بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب(علیهم السلام) فأقبل علینا ونحن قیام على رأسه والأمین والمؤتمن وسائر القوّاد، وقال احفظوا على أنفسکم.
ثم قال لآذنه ائذن له ولا ینزل إلاّ على بساطی، فأنا کذلک إذ دخل شیخ قد انهکته العبادة کأنه شن بال قد کلم السجود وجهه وأنفه، فلما رأى الرشید رمى بنفسه عن حمار کان یرکبه فصاح الرشید: لا والله إلاّ على بساطی فمنعه الحجّاب من الترجّل، ونظرنا إلیه بأجمعنا بالاجلال والاعظام، فما زال یسیر على حماره حتى سار الى البساط والحجّاب والقوّاد محدقون به.
فنزل وقام الیه الرشید واستقبله الى آخر البساط وقبّل وجهه ورأسه وأخذ بیده حتى جرّه فی صدر المجلس وأجلسه معه وجعل یحدّثه ویقبل علیه ویسأله عن أحواله.
ولمّا قام الرشید لقیامه وودّعه، ثم أقبل علیّ وعلى الأمین والمؤتمن، وقال: یا عبدالله ویا محمد ویا ابراهیم: سیروا بین یدی عمّکم وسیدّکم وخذوا برکابه وسوّوا علیه ثیابه(7)
3 ـ قال المأمون: فلمّا خلا المجلس قلت: یا أمیر المؤمنین من هذا الرجل الذی عظمته وأجللته، وقمت من مجلسک إلیه فاستقبلته، وأقعدته فی صدر المجلس، وجلست دونه، ثم أمرتنا بأخذ الرکاب له؟!
قال: هذا إمام الناس، وحجة الله على خلقه، وخلیفته على عباده.
فقلت: یا أمیر المؤمنین أولیست هذه الصفات کلّها لک وفیک؟!
فقال: أنا إمام الجماعة فی الظاهر والغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق.
والله یا بنیّ انه لأحقّ بمقام رسول الله (صلى الله علیه وآله) منی ومن الخلق جمیعاً، والله لو
نازعتنی هذا الأمر لاخذت الذی فیه عیناک فإن الملک عقیم(8)
ونلاحظ أن هذا التصریح من الرشید والاعتراف بحقانیة امامة الکاظم(علیه السلام) کان أمراً سریاً.
4 ـ قال المأمون: فلما أراد الرشید الرحیل من المدینة الى مکة أمر بصرّة فیها مائتا دینار، ثم أقبل على الفضل بن الربیع فقال له: اذهب بهذه الى موسى ابن جعفر(علیه السلام) وقل له: یقول لک أمیر المؤمنین نحن فی ضیق وسیأتیک برّنا بعد هذا الوقت.
فقمت فی صدره فقلت: یا أمیر المؤمنین تعطی أبناء المهاجرین والأنصار وسائر قریش، وبنی هاشم، ومن لا یعرف حسبه ونسبه خمسة الآف دینار الى ما دونها وتعطی موسى بن جعفر ـ وقد أعطیته مائتی دینار ـ أخسّ عطیة أعطیتها أحداً من الناس؟!
فقال: اسکت لا أمّ لک، فإنی لو أعطیت هذا ما ضمنته له، ما کنت آمنه أن یضرب وجهی غداً بمائة الف سیف من شیعته وموالیه، وفقر هذا وأهل بیته أسلم لی ولکم من بسط أیدیهم وأعینهم(9)
الطائفة الثانیة:
نختار فی هذه الطائفة ما یصوّر لنا أسالیب الرشید مع الإمام والتی یبتغی من ورائها احراج الإمام مرّة والاستهانة به مرّة أُخرى لعله یعجزه أمام الناس
ویثبت لهم فشله وعدم جدارته.
ولنرى موقف الإمام(علیه السلام) ازاء هذه الاحراجات والاستهانات وکیف تخلّص منها منتصراً.
1 ـ من أسالیب الرشید مع الإمام (علیه السلام) التی کان یهدف منها تخویف الإمام (علیه السلام) واستضعافه، هو اتهامه بأعمال سیاسیة محظورة بنظر الخلافة، مثل جبابة الخراج.
وعن هذا الإتّهام یحدّثنا الإمام موسى(علیه السلام) نفسه حیث یقول: «لمّا اُدخلت على الرشید سلّمت علیه فردّ علیّ السلام ثم قال: یا موسى بن جعفر خلیفتین یُجبى الیهما الخراج؟!»
فقلت: یا أمیر المؤمنین أعیذک بالله أن تبوء بإثمی وإثمک، وتقبل الباطل من أعدائنا علینا، فقد علمت أنه قد کُذب علینا منذ قبض رسول الله(صلى الله علیه وآله) بما عِلمُ ذلک عندک، فإن رأیت بقرابتک من رسول الله(صلى الله علیه وآله) أن تأذن لی أحدثک بحدیث أخبرنی به أبی، عن آبائه، عن جدی رسول الله(صلى الله علیه وآله)؟! فقال: قد أذنت لک فقلت: أخبرنی أبی عن آبائه عن جدی رسول الله(صلى الله علیه وآله) أنه قال: إنّ الرحم إذا مسّت الرحم تحرّکت واضطربت.
ثم سأله الرشید عن أفضلیة أهل البیت (اولاد علی) على بنی العباس فأجابه الإمام(علیه السلام) عن الأدلة على هذا التفضیل بعد أن أخذ منه الأمان. ثم أطلق سراحه»(10)
وإلیک نصّ ما دار بین الإمام(علیه السلام) وبین الرشید کما رواه الصدوق:
قال الرشید للإمام(علیه السلام):
«أرید أن أسألک عن أشیاء تتلجلج فی صدری منذ حین، لم أسأل عنها أحداً فإن أنت أجبتنی عنها خلّیت عنک، ولم أقبل قول أحد فیک، وقد بلغنی أنّک لم تکذب قطّ فاصدقنی عمّا أسألک ممّا فی قلبی.
فقلت: ما کان علمه عندی فإنّی مُخبرک به ان أنت آمنتنی؟ قال: لک الأمان ان صدقتنی وترکت التقیّة التی تعرفون بها معشر بنی فاطمة.
فقلت لیسأل أمیر المؤمنین عمّا شاء؟ قال: أخبرنی لم فضّلتم علینا ونحن وأنتم من شجرة واحدة وبنو عبد المطلب ونحن وأنتم واحد، أنّا بنو العبّاس وأنتم ولد أبی طالب، وهما عمّا رسول الله(صلى الله علیه وآله) وقرابتهما منه سواء؟
فقلت: نحن أقرب. قال: وکیف ذلک؟
قلت: لأن عبدالله وأبا طالب لأب وأمّ وأبوکم العبّاس لیس هو من أم عبدالله، ولا من أمّ أبی طالب قال: فلم ادّعیتم أنّکم ورثتم النبی(صلى الله علیه وآله)؟ والعمّ یحجب ابن العمّ، وقبض رسول الله(صلى الله علیه وآله) وقد توفی أبو طالب قبله، والعبّاس عمه حیّ؟
فقلت له: ان رأى أمیر المؤمنین أن یعفینی من هذه المسألة ویسألنی عن کلّ باب سواه یریده فقال: لا أو تجیب.
فقلت: فآمنّی؟ قال: قد آمنتک قبل الکلام.
فقلت: إنّ فی قول علی بن أبی طالب(علیه السلام) اذن لیس مع ولد الصّلب ذکراً کان أو اُنثى لأحد سهم إلاّ للأبوین والزوج والزوجة، ولم یثبت للعم مع ولد الصلب میراث، ولم ینطق به الکتاب، إلاّ أنّ تیماً وعدیاً وبنی أمیة قالوا: العم والد رأیاً منهم بلا حقیقة، ولا أثر عن النبی(صلى الله علیه وآله).
ومن قال بقول علی(علیه السلام) من العلماء قضایاهم خلاف قضایا هؤلاء، هذا نوح بن درّاج یقول فی هذه المسألة بقول علی(علیه السلام) وقد حکم به، وقد ولاّه أمیر المؤمنین المصرین
الکوفة والبصرة، وقد قضى به فأنهی الى أمیر المؤمنین فأمر باحضاره واحضار من یقول بخلاف قوله منهم سفیان الثوری، وابراهیم المدنی والفضیل بن عیّاض فشهدوا أنه قول علی(علیه السلام) فی هذه المسألة فقال لهم ـ فیما أبلغنی بعض العلماء من أهل الحجاز ـ: فلم لا تفتون به وقد قضى به نوح بن درّاج؟ فقالوا جسر نوح وجبنا وقد أمضى أمیر المؤمنین قضّیته بقول قدماء العامة عن النبی(صلى الله علیه وآله) أنّه قال: علی أقضاکم، وکذلک قال عمر بن الخطاب علی أقضانا، وهو إسم جامع لأن جمیع ما مدح به النبی(صلى الله علیه وآله) أصحابه من القراءة والفرائض والعلم داخل فی القضاء. قال: زدنی یا موسى.
قلت: المجالس بالأمانات وخاصّة مجلسک؟ فقال: لابأس علیک.
فقلت: إنّ النبی(صلى الله علیه وآله) لم یورّث من لم یُهاجر، ولا أثبت له ولایة حتّى یهاجر فقال: ماحجّتک فیه؟
قلت: قول الله تبارک وتعالى: (والذین آمنوا ولم یهاجروا ما لکم من ولایتهم من شیء حتى یُهاجروا)(11) وإنّ عمّی العبّاس لم یُهاجر، فقال لی: أسألک یاموسى هل أفتیت بذلک أحداً من أعدائنا؟ أم أخبرت أحداً من الفقهاء فی هذه المسألة بشیء؟
فقلت: اللهم لا، وما سألنی عنها إلاّ أمیر المؤمنین. ثم قال: لم جوّزتم للعامة والخاصة أن ینسبوکم الى رسول الله(صلى الله علیه وآله) ویقولون لکم: یا بنی رسول الله، وأنتم بنو علی وانّما یُنسب المرء الى أبیه وفاطمة انّما هی وعاء، والنبی(صلى الله علیه وآله) جدّکم من قبل أمکم؟
فقلت: یا أمیر المؤمنین لو أن النبی(صلى الله علیه وآله) نُشر فخطب الیک کریمتک هل کنت تجیبه؟
فقال: سبحان الله ولم لا أجیبه؟! بل أفتخر على العرب والعجم وقریش بذلک.
فقلت: لکنّه (صلى الله علیه وآله) لایخطب الیّ ولا أزوجه، فقال: ولم؟
فقلت: لأنه ولدنی ولم یلدک، فقال: أحسنت یا موسى. ثم قال: کیف قلتم انّا ذریّة النبی، والنبی(صلى الله علیه وآله) لم یعقب؟ وانّما العقب للذکر لا للانثى، وأنتم ولد الابنة، ولا یکون لها عقب؟
فقلت: اسألک بحق القرابة والقبر ومن فیه إلاّ ما أعفیتنی عن هذه المسألة.
فقال: لا أوتخبرنی بحجّتکم فیه یا ولد علی، وأنت یا موسى یعسوبهم، وإمام زمانهم، کذا اُنهی الی، ولست أعفیک فی کل ما أسألک عنه، حتى تأتینی فیه بحجة من کتاب الله، فأنتم تدّعون معشر ولد علی أنّه لا یسقط عنکم منه شیء (ألف ولا واو) إلاّ وتأویله عندکم،واحتججتم بقوله عزّ وجلّ (ما فرّطنا فی الکتاب من شیء)(12) وقد استغنیتم عن رأی العلماء وقیاسهم.
فقلت: تأذن لی فی الجواب؟ قال: هات.
فقلت: أعوذ بالله من الشیطان الرجیم بسم الله الرحمن الرحیم (ومن ذریته داود وسلیمان وأیّوب ویوسف وموسى وهارون وکذلک نجزی المحسنین وزکریا ویحیى وعیسى)(13) من أبو عیسى یا أمیر المؤمنین؟ فقال: لیس لعیسى أب.
فقلت: انّما ألحقناه بذراری الأنبیاء (علیهم السلام) من طریق مریم (علیها السلام)، وکذلک الحقنا بذراری النبی(صلى الله علیه وآله) من قبل أمّنا فاطمة (علیها السلام). أزیدک یا أمیر المؤمنین؟ قال: هات.
قلت: قول الله عزّ وجلّ (فمن حاجّک فیه من بعد ما جآءک من العلم فقل تعالوا ندع
أبناءنا وأبناءکم ونساءناونساءکم وأنفسنا وأنفسکم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الکاذبین)(14) ولم یدّع أحد أنّه أدخل النبی (صلى الله علیه وآله) تحت الکساء عند مباهلة النصارى إلاّ علی بن أبی طالب وفاطمة، والحسن، والحسین (علیهم السلام) فکان تأویل قوله عزّ وجلّ أبناءنا: الحسن والحسین، ونساءنا: فاطمة، وأنفسنا: علی بن أبی طالب.
إنّ العلماء قد أجمعوا على أنّ جبرئیل قال یوم اُحد: یا محمد إنّ هذه لهی المواساة من علی قال: لأنّه منّی وأنا منه فقال جبرئیل: وأنا منکما یا رسول الله ثمّ قال: «لا سیف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ علی»، فکان کما مدح الله عزّ وجلّ به خلیله(علیه السلام) إذ یقول: (فتىً یذکرهم یقال له ابراهیم)(15) انّا معشر بنی عمک نفتخر بقول جبرئیل انّه منّا. فقال: أحسنت یا موسى ارفع الینا حوائجک.
فقلت له: أوّل حاجة أن تأذن لابن عمک أن یرجع الى حرم جدّه(علیه السلام) والى عیاله فقال: ننظر ان شاء الله»(16)
2 ـ اتّهام الإمام بانحرافات فکریة لکسر هیبة الإمام(علیه السلام) وتبریر اضطهاده.
قال هارون للإمام الکاظم(علیه السلام): «بقی مسألة تخبرنی بها ولا تضجر.
فقال له الإمام(علیه السلام) سل. فقال: خبّرونی أنکم تقولون أن جمیع المسلمین عبیدنا، وجوارینا، وأنّکم تقولون: من یکون لنا علیه حق ولا یوصله الینا فلیس بمسلم.
فقال له موسى(علیه السلام): کذب الذین زعموا اننّا نقول ذلک، واذا کان الأمر کذلک فکیف یصح البیع والشراء علیهم ونحن نشتری عبیداً وجواری ونقعد معهم ونأکل معهم ونشتری المملوک ونقول له: یا بنیّ، وللجاریة:یا بنتی ونقعدهم یأکلون معنا تقرّباً الى الله سبحانه فلو انهم عبیدنا وجوارینا ما صح البیع والشراء…»(17)
3 ـ هناک محاولة اُخرى لإحراج الإمام(علیه السلام) والاستهانة به وکانت فی مجلس هارون الرشید حینما حضره حکیم هندی، ویبدو أن الرشید قد قصد حضور هذا الحکیم الهندی مع الإمام وخطط لادانة الإمام عملیّاً. کما یبدو ذلک من خلال تعلیقة الرشید بعد استسلام الحکیم الهندی لعلم الإمام(علیه السلام).
«حضر مجلس الرشید هندیّ حکیم، فدخل الإمام الکاظم(علیه السلام) فرفع الرشید مقامه، فحسده الهندی وقال: اغتنیت بعلمک عن غیرک، فکنت کما قال تعالى: (کلاّ إنَّ الإنسان لیطغى أن رآه استغنى)(18)
فقال(علیه السلام) أخبرنی، الصور الصدفیة إذا تکاملت فیها الحرارة الکلیة، وتواترت علیها الحرکات الطبیعیة، واستحکمت فیها القوى العنصریة، صارت اخصاصاً عقلیة، أم أشباحاً وهمیّة؟
فبهت الهندی وقبّل رأس الإمام(علیه السلام) وقال: کلّمتنی بکلام لاهوت، من جسم ناسوت.
فقال الرشید: کلما أردنا ان نضع أهل هذا البیت أبى الله إلاّ أن یرفعه.
فقال(علیه السلام): (یریدون لیطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو کره
الکافرون)»(19)(20)
4 ـ یُبرز لنا هذاالمشهد احدى محاولات الاغتیال التی کان قد أعدّها الرشید للإمام موسى(علیه السلام) وفشلها بالتسدید الإلهی.
لمّا همّ هارون الرشید بقتل الإمام موسى بن جعفر(علیه السلام) دعا الفضل بن الربیع وقال له: قد وقعت لی الیک حاجة أسألک أن تقضیها ولک مائة ألف درهم.
قال: فخرّ الفضل عند ذلک ساجداً وقال، أمرٌ أم مسألة؟ قال: بل مسألة.
ثم قال: أمرت بأن تحمل الى دارک فی هذه الساعة مائة ألف درهم، وأسألک أن تصیر الى دار موسى بن جعفر وتأتینی برأسه.
قال الفضل: فذهبت الى ذلک البیت فرأیت فیه موسى بن جعفر وهو قائم یصلی، فجلست حتى قضى صلاته، وأقبل(علیه السلام) الیّ وتبسّم وقال: «عرفت لماذا حضرت، أمهلنی حتى اُصلی رکعتین».
قال: فأمهلته فقام وتوضأ فأسبغ الوضوء، وصلّى رکعتین وأتمّ الصلاة بحسن رکوعها وسجودها، وقرأ خلف صلاته بهذا الحرز فاندرس وساخ فی مکانه، فلا أدری أأرض ابتلعته؟ أم السماء اختطفته؟
فذهبت الى هارون وقصصت علیه القصة. قال: فبکى هارون، ثم قال: قد أجاره الله منی(21)
1) آلة العصر والکبس.
2) بیت من قصب.
3) ولج البیت دخل فیه.
4) روى الصدوق فی أمالیه: 277 / ح 2 باسناده عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله علیه وآله): «طاعة السلطان واجبة، ومن ترک طاعة السلطان فقد ترک طاعة الله، ودخل فی نهیه،ان الله عزوجل یقول: (ولا تلقوا بأیدیکم الى التهلکة). البقرة (2): 195».
5) الغالیة: جمعها غوال: اخلاط من الطیب وتغلّى: تطیّب بالغالیة.
6) عیون أخبار الرضا: 1 / 76، ح 5 وعنه فی بحار الأنوار: 48 / 215، ح16.
7) عیون أخبار الرضا: 1 / 88، ح 1، بحار الأنوار: 48 / 129، ح 4، وحلیة الأبرار: 2 / 169، ومدینة المعاجز: 449 ح74، ومستدرک الوسائل: 2 / 52. إثبات الهداة: 5 / 511، ح29.
8) عیون أخبار الرضا: 1 / 88 / ح11، وبحار الأنوار: 48 / 129 / ح 4، ومدینة المعاجز: 499 / ح74، وحلیة الأبرار: 2 / 269، واثبات الهداة: 5 / 511 / ح29، ومستدرک الوسائل: 2 / 52، ح5.
9) عیون أخبار الرضا: 1 / 88 ح 11، البحار: 48 / 129 ح 4.
10) عیون أخبار الرضا: 1 / 81، ح9 وعنه فی بحار الأنوار: 48 / 125.
11) الانفال (8): 72.
12) الانعام (6): 38.
13) الأنعام (6): 84 ـ 85.
14) آل عمران (3): 61.
15) الأنبیاء (21): 60.
16) عیون أخبار الرضا (علیه السلام): 1 / 81.
17) بحار الأنوار: 48 / 146.
18) العلق (96): 6 ـ 7.
19) الصف: (61): 8.
20) عوالم العلوم: الإمام موسى بن جعفر: 1 / 314، عن الصراط المستقیم: 2 / 194.
21) بحار الأنوار: 94 / 332 عن مهج الدعوات: 30 ـ 33، وعوالم العلوم (الإمام موسى بن جعفر): 284.