سبقت الإشارة الى الظواهر الانحرافیة التی اجتاحت البلاد الإسلامیة والسیاسة الظالمة ضد أهل البیت (علیهم السلام) التی جاء بها العباسیون فی منهجهم الجاهلی.
ولا یسعنا أن نستعرض کل الاحداث والظروف التی أحاطت بالإمام (علیه السلام) فی عصر حکومة الرشید بل نحاول أن نقف على أهم ما امتازت به المرحلة من ظواهر لعلها تکون کافیة لاعطاء الصورة الواقعیة وحجم المأساة التی یعانیها الإمام(علیه السلام).
اذا لاحظنا الأموال التی کانت تجبى له من أطراف البلاد لوجدناها تفوق ضخامتها ورقمها أموال کل من سبقه من الخلفاء وکانت تنفق على غیر مصالح المسلمین مثل التفنن فی الملذّات حتى أسرف هارون فی هباته للمغنّین وأغدق علیهم الأموال الطائلة فقد أنشده أبو العتاهیة هذه الأبیات:
بأبی من کان فی قلبی له++
مرة حب قلیل فسرق
یا بنی العبّاس فیکم ملک++
شعب الاحسان منه تفترق
إنّما هارون خیر کله++
مات کل الشر مذ یوم خلق
وغنّاه ابراهیم الموصلی بها فأعطى کل واحد منهما مائة ألف درهم ومائة ثوب(1)
وکان هارون مولعاً بالجواری حریصاًعلى الاستمتاع والتلذّذ بهنّ حتى أفرط فی ذلک وکان له قصة مع الجاریة (غادر) جاریة أخیه الهادی وکانت حسناء من أحسن الناس وجهاً وغناءاً وکان الهادی یحبها وشک ذات یوم بأن الرشید سیتزوجها حال مماته فقال للرشید أرید أن تحلف بأنک لا تتزوجها بعدی فحلف واستوفى علیه الایمان من الحج راجلا وطلاق الزوجات وعتق الممالیک وتسبیل ما یملکه، ثم أحلفها بمثل ذلک فحلفت فلم یمض على ذلک الاشهر فمات الهادی وبویع الرشید فبعث الى (غادر) وخطبها(2)
وکان الرشید شدیدالولع بالغناء فاشتمل قصره على مختلف الآلات الموسیقیة وقد أمر المغنّین أن یختاروا له مائة صوت فاختاروها ثم أمرهم باختیار عشرة فاختاروها، ثم أمرهم باختیار ثلاثة ففعلوا(3) وانقطع إبراهیم عن الغناء لأنه عاهد الهادی بعدم الغناء بعده، لکن الرشید أمره أن یغنّی فامتنع فرماه فی السجن ولم یطلق سراحه حتى غنّى فی مجلسه(4)
وکان هارون من المدمنین على شرب الخمرة، وکان یدعو خواصّ جواریه إذا أراد الشراب(5)
قال حماد بن اسحاق عن أبیه: أرسل إلیّ الرشید ذات لیلة فدخلت علیه
فإذا هو جالس وبین یدیه جاریة علیها قمیص مورّد وسراویل مورّدة، فلما غنّت، فقال: لمن هذا اللحن؟ فقلت: لی یا أمیر المؤمنین فقال: هات لحن ابن سریج فغنّیته إیاه فطرب وشرب رطلا وسقى الجاریة رطلا وسقانی رطلاً(6)
وکان الرشید شدید التعلق بلعب القمار (النرد) و (الشطرنج)(7) وبذل الأموال الطائلة من أجل هذه الألعاب.
أمّا موقفه من العلویین فکان الرشید شدید العداء والحقد علیهم وقد أقسم حین تولّى الخلافة على استئصالهم وقتلهم فقال: والله لاقتلنّهم ـ أی العلویین ـ ولأقتلنّ شیعتهم(8) وفعلا نفّذ قسمه بقتل طائفة کبیرة من أعلام العلویین هم خیرة المسلمین علماً وورعاً فی الدین.
وعندما رأى جماهیر غفیرة من الاُمة الإسلامیة تتهافت على زیارة مرقد الحسین(علیه السلام) قام بهدم الدورالمجاورة له، واقتلاع السدرة التی کانت الى جانب القبر الشریف(9) کما أمر بحرث أرض کربلاء لیمحو بذلک کلّ أثر للقبر المطهر، وقد انتقم الله منه فإنّه لم یدُر علیه الحول حتى هلک فی خراسان(10)
وامتدّ سلوک هذا الحاکم الفاسد الى الاُمة، حیث اُشیع فی البلاد الإسلامیة کل أنواع الفساد، وتحوّلت بغداد عاصمة الخلافة الإسلامیة فی عصره الى مسرح للّهو، والرقص، وحانات الخمور ودور المجون، حتى أصبحت هذه
المظاهر سمة بارزة یتمیّز بها ذلک العصر، وعکس لنا الشعراء انطباعاتهم وأحاسیسهم باللهو وحبّ الجواری والتلذّذ بالخمرة، وکرّس أبو نؤاس مجهوده الفکری فیوصف الأکواب والکؤوس والسقاة والخمّارین والندماء وافتتن الناس بخمریاته.
وامتاز عصر هارون بالفقر والبؤس، الذی عم الملایین فنجد جموع المسلمین تعرى وتجوع، فیما زخرت بغداد بأموال المسلمین والتی تکرّست عند طبقة خاصة من الخلفاء وأبنائهم وعشیرتهم ووزرائهم والمغنین والجواری والخمّارین والوشاة والمنتفعین من مائدة الخلافة.
وحیث ظهر الفقر والبؤس فی موطن کان منشئاً للکفر. فقد ظهرت فی ذلک العصر حرکات إلحادیة نشطت بین البسطاء.
یقول (فلهوزن): إنّ هناک صلة وثیقة بین الدعوة العباسیة والزنادقة، ویقول: إنّ العبّاسیین فی ذلک الوقت جمعوا الزنادقة حولهم ولم ینبذوهم إلاّ فیما بعد(11)
والغریب أنّ هذه الحرکات الهدّامة التی انتشرت فی البلاد الإسلامیة مثل «المزدکیّة» وغیرها کانت تدعو للتحلّل من جمیع القیم وهی نوع من أنواع الشیوعیة، یقول الشهرستانی: إنّ مزدک أحلّ النساء وأباح الأموال وجعل الناس شرکة کاشتراکهم فی المال والنار والکلاء(12)
1) الاغانی: 4 / 74.
2) نساء الخلفاء: 46.
3) الاغانی: 1 / 7.
4) الأغانی: 1 / 162.
5) التاج: 37.
6) الاغانی: 5 / 126 ـ 127.
7) الأغانی: 9 / 126 ـ 127.
8) الأغانی: 5 / 225.
9) المناقب: 2 / 19، والامالی: 206.
10) تأریخ کربلاء: 198.
11) الدولة العربیة: 489.
12) الملل والنحل: 1 / 229.