جستجو
این کادر جستجو را ببندید.

مع هارون الرشید

زمان مطالعه: 42 دقیقه

الحدیث عن امامنا علیه‏السلام فى عهد هذا الخلیفة الذى لم یکن رشیدا فى تفکیره الأخروى، و لا سدیدا فى تقدیره، و لا حکیما فى تدبیره الدنیوى، بل عمل بجاهلیة حمقاء، و بعصبیة رعناء، جعلتاه لا یتورع عن ارتکاب کبائر المحرمات، و لا عن ممارسة أقبح التصرفات، تماما کالملحد بالله، الکافر برسوله، الذى لا تربطه بالاسلام أدنى رابطة – أقول: ان الحدیث عنه علیه‏السلام فى هذا العهد یفضح العباسیة التى حادت عن الدین، و عما أنزله رب العالمین.

فکثیرا ما کنت أتعجب و أنا أدرس أعماله مع امامنا سلام الله علیه، اذ رأیتها أعمال رجل باع آخرته بدنیاه، و تصرف تصرف عات متعنت لم یرتکز تصرفه الى سبب یدین به الامام علیه‏السلام، بل کان تصرف ظلم مفضوح یقوم به من لا یؤمن ببعث و لا بنشور و لا حساب و لا عقاب.

و لقد کان ینبغى لهذا الهارون – القارون – أن یخجل من قرباه بالنبى صلى الله علیه و اله و سلم، و أن یکون رشیدا یحفظ خط الرجعة، حتى ولو کان ملحدا کافرا بما جاء به ابن‏عمه صلوات الله و سلامه علیه و على أهل بیته

الطاهرین… و اننى لا أعرف کیف تحدر من صلب العباس بن عبد المطلب أمراء جائرون ظلموا ذریة النبى أعظم ظلم، و عاملوهم بجبروت لم یعرف التاریخ لها نظیرا…

فلو کان أبناء رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم من الترک أو الدیلم، لکان الأحرى بأولئک الأمراء – و هم أبناء عمومتهم – أن یقربوهم، و یحوطونهم بکل عطف و لطف. ولکنهم فعلوا العکس، اذ حکموا الترک و وضعوهم على رؤوسهم، و أدخلوهم على حریمهم، و أملوا على التاریخ سطورا سوداء لم یحو التاریخ مثلها الا نادرا.

فیا لیتهم أکرموهم: و وصلوا رحمهم، و تقربوا بذلک الى الله تعالى و الى رسوله، خصوصا اذا علمنا أن الأئمة علیهم‏السلام لم یظهروا للعباسیین أى تنکر أو خصومة، و لا شهروا فى وجوههم سیفا؛ و لا حرضوا علیهم أحدا، و لا فاهوا بکلمة عدوانیة تدل على المنافسة. فى الملک و السلطان.

و سترى فى هذه الصفحات الطوال من عهد هذا الخلیفة العنید، ما یترک العاقل فى حیرة من أمر خلیفة قالوا انه أصلح من غیره من العباسیین.

«و کان هارون الرشید قد حمل الامام علیه‏السلام من المدینة، لعشر لیال من شوال سنة تسع و سبعین و مائة، و قد قدم المدینة منصرفه من عمرة شهر رمضان، ثم شخص الى الحج و حمله معه»(1)

و سترى کیف قبض علیه، و کیف عامله أسوأ معامله، دون أى سابقة تقتضى ذلک.

فقد «ذکر ابن‏عمار، و غیره من الرواة، أنه لما خرج الرشید الى

الحج، و قرب من المدینة، استقبله الوجوه من أهلها یقدمهم موسى بن جعفر علیه‏السلام على بغلة.

فقال له الربیع: ما هذه الدابة التى تلقیت علیها أمیرالمؤمنین، و أنت ان طلبت علیها لم تدرک، و ان طلبت علیها لم تفت – یعنى أنها لا تلحق عدوه اذا هاجمه علیها، و اذا هرب من عدوه و هو علیها لا ینجو منه -!

فقال – علیه‏السلام -: انها تطاطأت عن خیلاء الخیل، و ارتفعت عن ذلة العیر – أى الحمیر-. و خیر الأمور أوسطها.

قالوا: و لما دخل الرشید المدینة توجه الى زیارة النبى صلى الله علیه و اله و سلم، و معه الناس، فتقدم الى قبر رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم، فقال: السلام علیک یا رسول الله، السلام علیک یابن عم – مفتخرا بذلک على غیره.

فتقدم موسى علیه‏السلام الى القبر و قال: السلام علیک یا رسول الله، السلام علیک یا أبه!.

فتغیر وجه الرشید، و تبین الغیظ فیه!».(2)

«قال المدائنى: أقام موسى بالمدینة حتى توفى المهدى و الهادى.

و حج هارون الرشید واعتمر فى شهر رمضان من سنة تسع و سبعین و مائة. فلما عاد الى المدینة – على ساکنها أفضل الصلاة والسلام – دخل الى قبر النبى صلى الله علیه و اله و سلم یزوره و معه الناس. فلما انتهى الى قبر وقف فقال: السلام علیک یا رسول الله، یابن عم، افتخارا على من حوله.

فدنا موسى بن جعفر فقال: السلام علیک یا أبت!.

فتغیر وجه الرشید و قال: هذا هو الفخر یا أباالحسن جدا…

ثم أخذه معه الى العراق فحسبه عند السندى بن شاهک. و تولى حبسه أخت السندى بن شاهک، و کانت تتدین، فحکت عنه أنه کان اذا صلى العتمة حمدالله و مجده و دعاه الى أن یزول اللیل ثم یقوم فیصلى حتى یصلى الصبح، ثم یذکر الله تعالى حتى تطلع الشمس. ثم یقعد الى ارتفاع الضحى. ثم یرقد، و یستیقظ قبل الزوال. ثم یتوضأ و یصلى، حتى یصلى العصر؛ ثم یذکر الله حتى یصلى المغرب، ثم یصلى ما بین المغرب و العتمة. فکان هذا دأبة الى أن مات؛ فکانت اذا رأته قالت: خاب قوم تعرضوا لهذا الرجل الصالح».(3)

«و لما کان محبوسا بعث الى الرشید برسالة: أنه لن ینقضى عنى یوم من البلاء، الا ینقضى عنک یوم من الرخاء، حتى نفضى بنا جمیعا الى یوم لیس له انقضاء، یخسر فیه المبطلون».(4)

و بعد هذا، أنا لا أدرى لماذا تغیر وجه خلیفة المسلمین حینما سمع ما قاله الامام علیه‏السلام، عند دخوله على جده المصطفى صلى الله علیه و اله و سلم؟!.

و کیف جاز للخلیفة المتعجرف أن یفتخر على الناس و یتواقح حین

یخاطب الرسول من غیر أدب و لا تهذیب و یقول له: یابن عم، ثم لا یجوز لسبط رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم، و ابن‏على و فاطمه علیهاالسلام، أن یفتخر بأبوة جده التى ما بعدها فخر لمفتخر!!.

هذا یجوز له رغما عن سائر العالمین.

و الخلیفة کان جلفا حین خاطب النبى صلى الله علیه و اله و سلم بهذه الفظاظة.و حق للامام أن یفتخر و لو رغم أنف ألف خلیفة جبار، و رضى أم أبى، و اربد وجهه أو اسود… و ان تغیر وجهه قد دل على خبث سریرته، و أظهر أنه ذو وجهین و لسانین، و یبطن غیر ما یظهر، بدلیل أنه قال للامام الکاظم علیه‏السلام: هذا هو الفخر… ثم أمر باعتقاله فورا لنقله الى حبسه المظلم!

لقد کان له یوم سلطة نفذ فیه ما أراد… ولکنه نسى أن للامام علیه‏السلام یوم اقتصاص عصیب، و أن یوم العدل أشد على الظالم، من یوم الظلم على المظلوم – کما قال أمیرالمؤمنین صلوات الله علیه و تحیاته و برکاته…(و سیعلم الذین ظلموا أى منقلب ینقلبون (227))(5)

«حدث أبوأحمد، هانى بن محمد العبدى(6) قال: حدثنى أبومحمد، رفعه الى موسى بن جعفر علیه‏السلام، قال:

لما أدخلت على الرشید سلمت علیه، فرد على السلام، ثم قال: یا موسى بن جعفر، خلیفتان یجبى الیهما الخراج؟!.

فقلت: یا أمیرالمؤمنین، أعیذک بالله أن تبوء باثمى و اثمک فتقبل الباطل من أعدائنا علینا. فقد علمت بأنه قد کذب علینا منذ قبض رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم. أما علم ذلک عندک؟!. فان رأیت بقرابتک من رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم أن تأذن لى أحدثک بحدیث أخبرنى به أبى عن آبائه عن جدى رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم.

فقال: قد أذنت لک.

فقلت: أخبرنى أبى عن آبائه، عن جدى رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم، أنه قال: ان الرحم اذا مست الرحم، تحرکت و اضطربت. فناولنى یدک جعلنى الله فداک.

قال: ادن منى.

فدنوت منه، فأخذ بیدى ثم جذبنى الى نفسه، و عانقنى طویلا، ثم ترکنى و قال:

اجلس یا موسى، فلیس علیک بأس!.

فنظرت الیه، فاذا به قد دمعت عیناه، فرجعت الى نفسى.

فقال: صدقت، و صدق جدک صلى الله علیه و اله و سلم، لقد تحرک دمى، و اضطربت عروقى حتى غلبت على الرقة وفاضت عیناى، و أنا أرید أن أسألک عن أشیاء تتلجلج فى صدرى منذ حین و أنا لم أسأل عنها أحدا. فان أنت أجبتنى عنها خلیت عنک و لم أقبل قول أحد فیک. و قد بلغنى أنک لم تکذب قط.

فاصدقنى فیما أسألک ما فى قلبى.

فقلت: ما کان علمه عندى فانى مخبرک به ان أنت أمنتنى.

قال: لک الأمان ان صدقتنى و ترکت التقیة التى تعرفون بها معاشر بنى‏فاطمة.

فقلت: لیسأل أمیرالمؤمنین عما شاء.

قال: أخبرنى لم فضلتم علینا، و نحن و أنتم من شجرة واحدة، و بنو عبدالمطلب، و نحن و أنتم واحد؟!. انا بنوعباس، و أنتم ولد أبى‏طالب، و هما عما رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم، و قرابتهما منه سواء!.

فقلت: نحن أقرب.

قال: و کیف ذلک.

قال: لأن عبدالله و أباطالب، لأب و أم، و أبوکم العباس لیس هو من أم عبدالله و لا من أم أبى‏طالب.

قال: فلم ادعیتم أنکم ورثتم النبى صلى الله علیه و اله و سلم، و العم یحجب ابن‏العم؟.

و قبض رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم، و قد توفى أبوطالب قبله، و العباس عمه حى؟.

فقلت له: ان رأى أمیرالمؤمنین أن یعفینى عن هذه المسألة، و یسألنى عن کل باب سواه یریده.

فقال: لا، أو تجیب.

فقلت: فأمنى.

قال: آمنتک قبل الکلام.

فقلت: ان فى قول على بن أبى‏طالب علیه‏السلام: انه لیس مع ولد الصلب، ذکرا کان أو أنثى، لأحد سهم الا الأبوین و الزوج و الزوجة؛ و لم یثبت للعم مع ولد الصلب میراث، و لم ینطق به الکتاب العزیز و لا السنة؛ الا أن تیما وعدیا، و بنى‏أمیة قالوا: العم والد، رأیا منهم بلا حقیقة و لا أثر عن رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم. و من قال بقول على من العلماء قضایاهم خلاف قضایا هؤلاء. هذا نوح بن دراج یقول فى هذه المسألة بقول على، و قد حکم به.

و قد ولاه أمیرالمؤمنین المصرین: الکوفة، و البصرة. و قد قضى به، فأنهى

الى أمیرالمؤمنین فأمر باحضاره و احضار من یقول بخلاف قوله: منهم سفیان الثورى، و ابراهیم المازنى، و الفضیل بن عیاض، فشهدوا أنه قول على فى هذه المسألة؛ فقال لهم فیما بلغنى بعض العلماء من أهل الحجاز: لم لا تفتون و قد قضى نوح بن دراج… فقالوا: جسر، و حببنا… و قد أمضى أمیرالمؤمنین قضیته بقول قدماء العامة عن النبى صلى الله علیه و اله و سلم، أنه قال: أقضاکم على؛ و کذلک عمر بن الخطاب قال: على أقضانا. و هو اسم جامع، لأن جمیع ما مدح به النبى صلى الله علیه و اله و سلم أصحابه من القرابة و الفرائض، و العلم، داخل فى القضاء.

قال: زدنى یا موسى.

قلت: المجالس بالأمانات، و خاصة مجلسک.

فقال: لا بأس به.

فقلت: ان النبى لم یورث من لم یهاجر، و لا أثبت له ولایة حتى یهاجر.

فقال: ما حجتک فیه؟.

قلت: قول الله تبارک و تعالى: (والذین ءامنوا و لم یهاجروا ما لکم من ولایتهم من شى‏ء حتى یهاجروا…)(7) و ان عمى العباس لم یهاجر.

فقال لى: انى أسألک یا موسى: هل أفتیت أحدا بذلک من أعدائنا، أو أخبرت أحدا من الفقهاء فى هذه المسألة بشیى‏ء؟.

فقلت: اللهم لا، و ما سألنى عنها الا أمیرالمؤمنین.

ثم قال لى: جوزتم للعامة و الخاصة أن ینسبوکم الى

رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم، و یقولوا لکم: یا بنى رسول الله، و أنتم بنوعلى، و انما ینسب المرء الى أبیه، و فاطمة انما هى وعاء، و النبى جدکم من قبل أمکم!.

فقلت: یا أمیرالمؤمنین، لو أن النبى نشر – أى عاد حیا – فخطب الیک کریمتک – أى ابنتک – هل کنت تجیبه؟.

قال: سبحان الله!. و لم لا أجیبه؟. بل أفتخر على العرب و العجم و قریش بذلک.

فقلت له: لکنه لا یخطب الى، و لا أزوجه.

فقال: و لم؟!.

قلت: لأنه ولدنى، و لم یلدک.

فقال: أحسنت یا موسى… ثم قال: کیف قلتم: انا ذریة النبى، و النبى لم یعقب، و انما العقب الذکر، لا الأنثى؟.. و أنتم ولد الابنة، و لا یکون ولدها عقبا له.

فقلت: أسألک بحق القرابة، و القبر و من فیه – أى قبر النبى صلى الله علیه و اله و سلم – الا أعفیتنى عن هذه المسألة.

فقال: لا، أو تخبرنى بحجتکم فیه یا ولد على!… و أنت یا موسى یعسوبهم و امام زمانهم. کذا أنهى الى، و لست أعفیک فى کل ما أسألک عنه، حتى تأتینى فیه بحجة من کتاب الله؛ و أنتم تدعون، معشر ولد على، أنه لا یسقط عنکم منه شى‏ء، ألف و لا واو، الا تأویله عندکم، و احتججتم بقوله عزوجل: (ما فرطنا فى الکتاب من شى‏ء..)(8) و استغنیتم عن رأى العلماء و قیاسهم.

فقلت: تأذن لى فى الجواب؟.

قال: هات.

فقلت: أعوذ بالله من الشیطان الرجیم، بسم الله الرحمن الرحیم: (و من ذریته داود و سلیمان و أیوب و یوسف و موسى و هارون و کذلک نجزى المحسنین (84)و زکریا و یحیى و عیسى و الیاس کل من الصالحین (85))(9)

من أبوعیسى یا أمیرالمؤمنین؟!.

فقال: لیس لعیسى أب.

فقلت: انما ألحقناه بذرارى الأنبیاء علیهم‏السلام، عن طریق مریم علیهاالسلام، و کذلک ألحقنا بذرارى النبى صلى الله علیه و اله و سلم من قبل أمنا فاطمة… أزیدک یا أمیرالمؤمنین؟.

قال: هات.

قلت: قول الله عزوجل: (فمن حاجک فیه من بعد ما جآءک من العلم فقل تعالوا ندع أبنآءنا و أبنآءکم و نسآءنا و نسآءکم و أنفسنا و أنفسکم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الکاذبین (61))(10) و لم یدع أحد أنه أدخله النبى صلى الله علیه و اله و سلم تحت الکساء عند مباهلة النصارى الا على بن أبى‏طالب علیه‏السلام، و فاطمة، و الحسن، و الحسین، أبناءنا الحسن و الحسین، و نساؤنا فاطمة، و أنفسنا على بن أبى‏طالب علیه‏السلام. على أن العلماء قد أجمعوا على أن جبرائیل قال یوم أحد: یا محمد، ان هذه لهى المواساة من على. قال: لأنه منى، و أنا منه. فقال جبرائیل: و أنا منکما یا رسول الله؛ ثم قال: لا سیف الا ذوالفقار، و لا فتى الا على. فکان کما مدح الله عزوجل به خلیله علیه‏السلام اذ

یقول: (قالوا سمعنا فتى یذکرهم یقال له ابراهیم (60))(11) انا نفتخر بقول جبرائیل أنه منا.

فقال: أحسنت یا موسى، ارفع لنا حوائجک.

فقلت: ان أول حاجة لى، أن تأذن لابن عمک أن یرجع الى حرم جده و الى عیاله. فقال: ننظر ان‏شاءالله.

و روى أن المأمون قال لقومه: أتدرون من علمنى التشیع؟!.

فقال القوم: لا والله ما نعلم ذلک.

قال: علمنیه الرشید.

قیل له: فکیف ذلک و الرشید یقتل أهل البیت؟!.

قال: کان الرشید یقتلهم على الملک، لأن الملک عقیم.

ثم قال: انه دخل موسى بن جعفر علیه‏السلام على الرشید یوما، فقام الیه و استقبله، و أجلسه فى الصدر، و قعد بین یدیه، و جرى بینهما أشیاء.

ثم قال موسى بن جعفر لأبى: یا أمیرالمؤمنین، ان الله عزوجل قد فرض على الولاة عهده: أن ینعشوا فقراء هذه الأمة، و یقضوا عن الغارمین، و یؤدوا عن المثقل، و یکسوا العارى، و یحسنوا الى العانى؛ و أنت أولى من یفعل ذلک.

قال: أفعل: یا أباالحسن.

ثم قام، فقام الرشید لقیامه، و قبل بین عینیه و وجهه، ثم أقبل على

و على الأمین و المؤتمن فقال: یا عبدالله، و یا محمد، و یا ابراهیم، امشوا بین یدى ابن‏عمکم و سیدکم!. خذوا برکابه، و سووا ثیابه، و شیعوه الى منزله.

فأقبل الى أبوالحسن، موسى بن جعفر علیه‏السلام، سرا بینى و بینه، فبشرنى بالخلافة، و قال لى: اذا ملکت هذا الأمر فأحسن الى ولدى؛ ثم انصرفنا.

و کنت أجرأ ولد أبى‏علیه؛ فلما خلا المجلس قلت: یا أمیرالمؤمنین، و من هذا الرجل الذى أعظمته و أجللته و قمت من مجلسک الیه فاستقبلته و أقعدته فى صدر المجلس، و جلست دونه؛ ثم أمرتنا بأخذ الرکاب له؟!.

قال: هذا امام الناس، و حجة الله على خلقه، و خلیفته على عباده.

قلت: یا أمیرالمؤمنین، أو لیست هذه الصفات کلها لک و فیک؟!.

فقال: أنا امام الجماعة فى الظاهر بالغلبة و القهر، و موسى بن جعفر امام حق. والله یا بنى أنه لا حق بمقام رسول الله منى و من الخلق جمیعا!.

والله لو نازعتنى فى هذا الأمر لأخذت الذى فیه عیناک، لأن الملک عقیم!.

فلما أراد الرحیل من المدینة الى مکة، أمر بصرة سوداء فیها مائتا دینار، ثم أقبل على الفضل فقال له: اذهب الى موسى بن جعفر و قل له: یقول لک أمیرالمؤمنین: نحن فى ضیقة، و سیأتیک برنا بعد هذا الوقت.

فقمت فى وجهه فقلت: یا أمیرالمؤمنین، تعطى أبناء المهاجرین و الأنصار و سائر قریش و بنى‏هاشم، و من لا تعرف حسبه و نسبه خمسة آلاف دینار الى ما دونها، و تعطى موسى بن جعفر، و قد عظمته و أجللته، مائتى دینار، و أخس عطیة أعطیتها أحدا من الناس؟!!

فقال: اسکت لا أم لک!. فانى لو أعطیته هذا ما ضمنته له، ما کنت

آمنه أن یضرب وجهى غدا بمائة ألف سیف من شیعته و موالیه!. و فقر هذا و أهل بیته، أسلم لى ولکم من بسط أیدیهم و اغنائهم»(12)

و روى سفیان بن نزار الخبر السابق هکذا:

«کنت یوما على رأس المأمون فقال: أتدرون من علمنى التشیع؟.

فقال القوم جمیعا: لا والله ما نعلم.

قال: علمنیه الرشید.

قیل له: و کیف ذلک و الرشید کان یقتل أهل هذا البیت؟!.

قال: کان یقتلهم عن الملک، لأن الملک عقیم. و لقد حججت معه سنة الى المدینة فتقدم الى حجابه، و قال: لا یدخلن على رجل من أهل المدینة و مکة الا نسب نفسه.

و هکذا کان. فکان یصل من المال خمسة آلاف دینار و ما دونها، على قدر شرف و هجرة الرجل.

فأنا ذات یوم واقف، اذ دخل الفضل بن ربیع، فقال: یا أمیرالمؤمنین، على الباب رجل زعم أنه موسى بن جعفر علیه‏السلام.

فأقبل علینا، و نحن قیام على رأسه، و الأمین، و المؤتمن، و سائر القواد، فقال: احتفظوا على أنفسکم، ثم قال لآذنه: ائذن له، و لا ینزل الا على بساطى.

فدخل، فلما رأى الرشید رمى بنفسه عن حمار کان راکبه، فقال الرشید: لا والله الا على بساطى.

فمنعه الحجاب من الترجل، و نظرنا الیه بأجمعنا بالاجلال و الاعظام، فما زال یسیر على حماره حتى سار الى البساط، و الحجاب و القواد محدقون به.

فنزل، وقام الرشید فاستقبله الى آخر البساط، و قبل وجهه و عینیه، و أخذ بیده حتى صیره فى صدر المجلس، و أجلسه معه فیه؛ و جعل یحدثه و یقبل بوجهه علیه و یسأله عن أحواله.

ثم قال له: یا أباالحسن، ما علیک من العیال؟

فقال: یزیدون على الخمسمائة.

قال: أولاد کلهم؟!

قال: لا، أکثرهم موالى وحشم. و أما الولد فلى نیف و ثلاثون، الذکران منهم کذا، و النسوان منهم کذا.

قال: فلم لا تزوج النسوان من بنى عمومتهن و أکفائهن؟.

قال: الید تقصر عن ذلک.

قال: فما حال الضیعة؟.

قال: تعطى فى وقت، و تمنع فى آخر.

قال: فهل علیک دین؟.

قال: نعم.

قال: کم؟.

قال: نحو من عشرة آلاف دینار.

فقال الرشید: یابن عم، أنا أعطیک من المال ما تزوج به الذکران و النسوان، و تقضى الدین، و تعمر الضیاع.

فقال له: وصلتک رحم یابن عم، و شکر الله لک هذه النیة الجمیلة.

ثم قال، فقام الرشید لقیامه، و قبل عینیه و وجهه، ثم أقبل على، و على الأمین و المؤتمن فقال: یا عبدالله، و یا محمد، و یا ابراهیم: بین یدى عمکم و سیدکم. خذوا برکابه، و سووا علیه ثیابه، و شیعوه الى منزله.

فأقبل على أبوالحسن علیه‏السلام سرا بینى و بینه، فبشرنى بالخلافة و قال لى: اذا ملکت هذا الأمر فأحسن الى ولدى.

فلما خلا المجلس قلت: یا أمیرالمؤمنین، من هذا الرجل الذى عظمته و أجللته، و قمت من مجلسک الیه فاستقبلته و أقعدته فى صدر المجلس و جلست دونه: ثم أمرتنا بأخذ الرکاب له؟!.

قال: هذا امام الناس، و حجة الله على خلقه، و خلیفته على عباده.

قلت: یا أمیرالمؤمنین، أو لیست هذه الصفات کلها لک و فیک؟!

فقال: أنا امام الجماعة فى الظاهر بالغلبة و القهر، و موسى بن جعفر امام حق؛ والله یا بنى انه لأحق بمقام رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم منى و من الخلق جمیعا!. والله لو نازعتنى فى هذا الأمر لأخذت الذى فیه عیناک، فان الملک عقیم.

فلما أراد الرحیل الى مکة، أمر بصرة سوداء فیها مائتا دینار، و قال للفضل بن الربیع، اذهب بهذه الى موسى بن جعفر و قل له: نحن فى ضیق، و سیأتیک برنا بعد هذا الوقت.

فقمت فى صدره فقلت: یا أمیرالمؤمنین، تعطى أبناء المهاجرین و الأنصار و سائر الناس خمسة آلاف دینار و ما دونها، و تعطى موسى بن جعفر مائتى دینار، أخس عطیة أعطیتها لمن لا یعرف حسبه و نسبه؟!.

قال: اسکت لا أبالک، فانى لو أعطیت هذا ما ضمنته له، ما کنت آمنه

أن یضرب وجهى غدا بمائة ألف سیف من شیعته و موالیه. و فقر هذا و أهل بیته، أسلم لى ولکم من بسط أیدیهم و أعینهم»(13)

و فى هذه الروایة، و الروایة التى سبقتها، خزى واضخ فاضح فى تصرفات هذا الخلیفة المغتصب الجبار الذى حارب الله و رسوله، و ما جاء به الرسول عن ربه؛ و هو على سنة من سبقه من سلاطین المسلمین، فى التضییق على أهل هذا البیت الکریم صلوات الله و سلامه علیهم.

و قد کانت سیاسة جمیع المتأمرین على رقاب المسلمین بالباطل، تبدأ بسیاسة افقار أهل هذا البیت و محاربتهم اقتصادیا، و قد سها عن بال أولئک المتأمرین أن الله تبارک و تعالى قال فى کتابه المجید: (و ان من شى‏ء الا عندنا خزائنه و ما ننزله الا بقدر معلوم(21))(14) و تناسى أولئک الأمراء المناصبون لله و رسوله أن الخالق عزوجل قد سخر لأئمة أهل البیت کل شى‏ء، و لم یکن ینقصهم المال، بل کانت عطایاهم تفوق عطایا الملوک. و من العجیب أنهم کانوا یحاربونهم مع أنهم ما طلبوا ملکا و لا رغبوا فى سلطان، و لا أعانوا طالب سلطة، بل کانت وظیفتهم محصورة فى الأمر بالمعروف و النهى عن المنکر، و بقول کلمة الحق فى وجه الباطل الذى کان علیه الحکام و قضاتهم.

و أما کذبک یا هارون فقد سمعه منک ابنک المأمون فى حدیثک معه.

و أما زعمک بأنک لا تأمن الامام أن یضرب وجهک بمائة ألف سیف من شیعته و موالیه اذا استغنى، فاننا نقول لک: لم تمنعه من ذلک قلة ذات الید، و لا خلق لیطالب بملک دنیوى. فما هذا منک سوى کذب و افتراء و تبریر

لشنیع فعلک الذى فضحک أمام ولدک الذى – بفضل سوء سلوکک الدینى – لم یکن أصلح منک و الحمدلله، بل لطخ یده بدم أئمة أهل بیت رسول الله صلوات الله علیه و علیهم، کما لطخت یدک بقتلهم، و الملک العقیم الذى حرصت علیه قد راح من یدک، و قد حملت وزره على ظهرک، و بؤت بالخسران فى الدار الباقیة، و قد علمت الآن أنک قد حدت عن خط الحق و اتبعت الباطل.

أما امامنا العظیم علیه‏السلام، فانه کان مشغولا عنک و عن دنیاک ببر الفقراء و المحتاجین، یحمل لهم الطعام و المال لیلا، و یوزعه علیهم و أنت تغط فى نومک و قد أتخمک الشیطان غشا و غرورا… و الدنیا عند امامنا هذا صلوات الله و سلامه علیه، لا تساوى عفطة عنز کما قال جده أمیرالمؤمنین على بن أبى‏طالب علیه‏السلام…

و أنت مت بغیظک، و دفن معک عملک الخاسر.

و بالمعنى السابق روى الریان بن شبیب أن المأمون قال:

«استأذن الناس على الرشید، فکان آخر من أذن له موسى بن جعفر.

فلما نظر الیه الرشید تحرک و مد بصره و عنقه الیه حتى دخل البیت الذى کان فیه.

فلما قرب منه جثا الرشید على رکبتیه و عانقه، ثم أخذ یسأل عن أحواله، و أبوالحسن یقول: خیر، خیر.

فلما قام عانقه و ودعه.

فقلت: یا أمیرالمؤمنین، رأیتک عملت بهذا الرجل شیئا ما عملته مع أحد قط!. فمن هذا الرجل؟!.

فقال: یا بنى هذا وارث علم النبیین، هذا موسى بن جعفر بن محمد؛ ان أردت العلم الصحیح فعند هذا.

قال المأمون: فعند ذلک انغرس فى قلبى حبهم»(15)

أجل، هذا وارث علم النبیین، و عنده العلم الصحیح.

فما بالک یا وارث علم الشیاطین، تربع على ضلعک، و تبیع آخرتک بأرخص ثمن، و باشباع البطن و الفرج!!!

و هذه الروایة – کسابقتیها -، تدل على خلیفة یعرف و یحرف… و لیس من یعلم کمن لا یعلم… و ویل لمن لم یعمل بعلمه، فان حسابه عسیر!.

و عن محمد بن الزبرقان الدامغانى، الشیخ، قال:

قال أبوالحسن، موسى بن جعفر، علیه‏السلام:

لما أمرهم هارون الرشید بحملى – أى باعتقاله – دخلت علیه فسلمت، فلم یرد السلام، و رأیته مغضبا.

فرمى الى بطومار(16) فقال: اقرأه!. فان فیه کلاما فیه علم الله براءتى منه، فیه:

ان موسى بن جعفر یجبى الیه خراج الآفاق من غلاة الشیعة، ممن یقول بامامته، یدینون الله بذلک، و یزعمون أنه فرض علیهم الى أن یرث الله الأرض و من علیها، و یزعمون أن من لم یوهب – یهب – الیه العشر، و لم یصل بامامتهم، و لم یحج باذنهم، و یجاهد بأمرهم، و یحمل الغنیمة الیهم،

و یفضل الأئمة على جمیع الخلق، و یفرض طاعتهم مثل طاعة الله وطاعة رسوله، فهو کافر، حلال ماله و دمه!. و فیه کلام شناعة مثل المتعة بلا شهود، و استحلال الفروج بأمره ولو بدرهم، و البراءة من السلف و یلعنون علیهم فى صلاتهم. و یزعمون أن من – لم – یتبرأ منهم فقد بانت امرأته منه، و من آخر الوقت فلا صلاة له القول الله تبارک و تعالى: (أضاعوا الصلوة و اتبعوا الشهوات فسوف یلقون غیا(59))(17) و یزعمون أنه واد فى جهنم.

و الکتاب طویل، و أنا قائم أقرأ، و هو ساکت.

فرفع رأسه و قال: قد اکتفیت بما قرأت، تکلم بحجتک بما قرأته.

قلت: یا أمیرالمؤمنین، والذى بعث محمدا صلى الله علیه و اله و سلم بالنبوة، ما حمل الى قط أحد درهما و لا دینارا من طریق الخراج. لکنا معاشر أبى‏طالب، نقبل الهدیة التى أحلها الله عزوجل لنبیه صلى الله علیه و اله و سلم فى قوله: لو أهدى الى کراع لقبلته، ولو دعیت الى ذراع لأجبت و قد علم أمیرالمؤمنین ضیق ما نحن فیه، و کثرة عدونا، و ما منعنا السلف من الخمس، فاضطررنا الى قبول الهدیة. وکل ذلک مما علمه أمیرالمؤمنین.

فلما تم کلامى سکت.

ثم قلت: ان رأى أمیرالمؤمنین أن یأذن لابن عمه فى حدیث عن آبائه، عن النبى صلى الله علیه و اله و سلم؟.

فکأنه اغتنمها، فقال: مأذون لک، هاته.

فقلت: حدثنى أبى، عن جدى، یرفعه الى النبى صلى الله علیه و اله و سلم، أن الرحم اذا مست رحما تحرکت و اضطربت فان رأیت أن تناولنى یدک.

فأشار بیده الى، ثم قال: أدن…

فدنوت، فصافحنى، و جذبنى الى نفسه ملیا، ثم فارقنى و قد دمعت عیناه.

فقال لى: اجلس یا موسى، فلیس علیک بأس، صدقت، و صدق جدک، و صدق النبى صلى الله علیه و اله و سلم، لقد تحرک دمى و اضطربت عروقى، و اعلم أنک لحمى و دمى، و أن الذى حدثتنى به صحیح. و انى أرید أن أسألک عن مسألة، فان أجبتنى أعلم أنک قد صدقتنى، و خلیت عنک، و وصلتک و لم أصدق ما قیل فیک.

فقلت: ما کان علمه عندى، أجبتک فیه.

فقال: لم لا تنهون شیعتکم عن قولهم لکم: یابن رسول الله، و أنتم ولد على و فاطمة؟!. انما هى وعاء، والولد ینسب الى الأب، لا الأم!.

فقلت: ان رأى أمیرالمؤمنین أن یعفینى من هذه المسألة، فعل.

فقال: لست أفعل، أو أجبت.

فقلت: فأنا فى أمانک ألا تصیبنى من آفة السلطان شیئا؟.

فقال: لک الأمان.

قلت: أعوذ بالله من الشیطان الرجیم: (و وهبنا له اسحاق و یعقوب کلا هدینا و نوحا هدینا من قبل و من ذریته داود و سلیمان و أیوب و یوسف و موسى و هارون و کذلک نجزى المحسنین (84) و زکریا و یحیى و عیسى)(18) فمن أبوعیسى؟.

فقال: لیس له أب، انما خلق من کلام الله عزوجل، و روح القدس.

فقلت: انما لحق عیسى بذرارى الأنبیاء صلوات الله و سلامه علیهم، من قبل مریم؛ و ألحقنا بذرارى الأنبیاء من قبل فاطمة علیهاالسلام، و من قبل على علیه‏السلام.

فقال: أحسنت یا موسى، زدنى من مثله.

فقلت: اجتمعت الأمة، برها و فاجرها، أن حدیث النجرانى حین دعاه النبى صلى الله علیه و آله و سلم الى المباهلة، لم یکن فى الکساء الا النبى صلى الله علیه و سلم، و على، و فاطمة، و الحسن، و الحسین علیهم‏السلام، فقال الله تبارک و تعالى: (فمن حآجک فیه من بعد ما جآءک من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبنآءکم نسآءنا و نسآءکم و أنفسنا…)(19) فکان تأویل: (أبنآءنا): الحسن و الحسین، (نسآءنا): فاطمة، (و أنفسنا): على بن أبى‏طالب علیهم‏السلام.

فقال: أحسنت. ثم قال: أخبرنى عن قولکم: لیس للعم مع ولد الصلب میراث؟.

فقلت: أسألک یا أمیرالمؤمنین بحق الله، و بحق رسوله صلى الله علیه و سلم، أن تعفینى من تأویل الآیة و کشفها، و هى عند العلماء مستورة.

فقال لى: انک ضمنت لى أن تجیب فیما أسألک، و لست أعفیک.

فقلت: فجدد لى الأمان.

فقال: قد أمنتک.

فقلت: ان النبى صلى الله علیه و سلم، لم یورث من قدر على الهجرة فلم یهاجر. و ان عمى العباس قدر على الهجرة فلم یهاجر، و انما کان فى عدد الأسارى عند النبى صلى الله علیه و سلم، و جحد أن یکون له الفداء… فأنزل الله تبارک و تعالى على

النبى صلى الله علیه و آله و سلم یخبره بدفین له من ذهب، فبعث علیا علیه‏السلام، فأخرجه من عند أم‏الفضل، و أخبر العباس بما أخبره جبرائیل عن الله تبارک و تعالى، فأذن لعلى و أعطاه علامة الموضع الذى دفن فیه؛ فقال العباس عند ذلک: یابن أخى، ما فاتنى منک أکثر. و أشهد أنک رسول رب العالمین.

فلما أحضر على الذهب، فقال العباس: أفقرتنى یابن أخى، فأنزل الله تبارک و تعالى: (یأیها النبى قل لمن فى أیدیکم من الأسرى ان یعلم الله فى قلوبکم خیرا یؤتکم خیرا مما أخذ منکم و یغفر لکم والله غفور رحیم (70))(20) و قوله: (والذین ءامنوا و لم یهاجروا ما لکم من ولایتهم من شى‏ء حتى یهاجروا)(7) ثم قال: (و ان استنصروکم فى الدین فعلیکم النصر)(21)

فرأیته قد اغتم.

ثم قال: أخبرنى من أین قلتم ان الانسان یدخله الفساد من قبل النساء لحال الخمس الذى لم یدفع الى أهله؟!.

فقلت: أخبرک یا أمیرالمؤمنین بشرط أن لا تکشف هذا الباب لأحد ما دمت حیا، و عن قریب یعرف الله بیننا و بین من ظلمنا. و هذه المسألة لم یسألها أحد من السلاطین غیر أمیرالمؤمنین.

قال: ولا تیم، و لا عدى، و لا بنوأمیة، و لا أحد من آبائنا؟!.

قلت: ما سئلت، و لا سئل أبوعبدالله، جعفر بن محمد عنها.

قال: الله!.

قلت: الله.

قال: فان بلغنى عنک، أو عن أحد من أهل بیتک کشف ما أخبرتنى به، رجعت عما أمنتک به.

فقلت: لک على ذلک.

فقال: أحب أن تکتب لى کلاما موجزا، له أصول و فروع، یفهم تفسیره، و یکون ذلک سماعک من أبى‏عبدالله علیه‏السلام.

فقلت: نعم، و على عینى، یا أمیرالمؤمنین.

قال: فاذا فرغت فارفع حوائجک.

قال [الامام علیه‏السلام]: و وکل بى من یحفظنى، و بعث الى فى کل یوم مائدة سریة، فکتبت:

بسم الله الرحمن الرحیم

جمیع أمور الدنیا أمران:

أمر لا اختلاف فیه، و هو اجماع الأمة على الضرورة التى یضطرون الیها، و أخبار المجمع علیها، المعروض علیها کل شبهة، و المستنبط منها على کل حادثة. و أمر یحتمل الشک و الانکار، و سبیله استیضاح أهل الحجة علیه. فما ثبت لمنتحلیه من کتاب مستجمع على تأویله، أو سنة عن النبى صلى الله علیه و آله و سلم لا اختلاف فیها، أو قیاس تعرف العقول عدله، ضاق على من استوضح تلک الحجة ردها، و وجب علیه قبولها والاقرار والدیانة بها. و ما لم تثبت لمنتحلیه به حجة من کتاب مستجمع على تأویله، أو سنة عن النبى صلى الله علیه و آله و سلم لا اختلاف فیها، أو قیاس تعرف العقول عدله، و یسع خاص الأمة و عامها الشک فیه و الانکار له.

کذلک هذان الأمران من أمر التوحید فما دونه، الى أرش الخدش فما

دونه. فهذا المعروض الذى یعرض علیه أمر الدین، فما ثبت لک برهانه اصطفیته، و ما غمض عنک ضوؤه نفیته.

و لا قوة الا بالله، و حسبنا الله، و نعم الوکیل.

فأخبرت الموکل بى أنى قد فرغت من حاجته.

فأخبره. فخرج. و عرضت علیه، فقال: أحسنت، هو کلام موجز جامع، فارفع حوائجک یا موسى.

فقلت: یا أمیرالمؤمنین، أول حاجتى الیک أن تأذن لى فى الانصراف الى أهلى، فانى ترکتهم باکین آیسین من أن یرونى.

فقال: مأذون لک. ازدد.

فقال: یبقى الله لنا أمیرالمؤمنین معاشر بنى‏عمه.

فقال: ازدد.

فقلت: على عیال کثیر، و أعیننا بعد الله ممدودة الى فضل أمیرالؤمنین و عادته.

فأمر لى بمائة ألف درهم، و کسوة، و حملى و ردنى الى أهلى مکرما»(22)

و هکذا یرى قارئى الکریم أن هذا الخلیفة لم ینقص فهما و لا علما بمرکز الامام الربانى، و لا بکونه الامام الحق، و الحجة على الخلق؛ ولکن لا ینقضى العجب من أنه کان یحرجه فى کل سؤال یلقیه علیه، و یتعنت فى

أسئلته و یضایقه مضایقة مفتعلة لیأخذ علیه جوابا لا یعجبه فینتقم منه!.

و لماذا هذا یا خلیفة الزمان؟.

نعم، لماذا لا یصفو قلبک لامام منصب من الله، فتقربه و تدنیه، و تجعله مستشارک الأمین، و المفتى لک بالحق و بشریعة سید المرسلین، و حینئذ یصفو قلبه علیک، و یدعو لک بالتوفیق، و یکون مرجعک فى أمور دنیاک و دینک؟!.

أجل، لماذا تبعد ابن‏عم لک صادق أمین، و تقرب الترک و الدیلم، و تسلک مسلک الظلمة الجائرین الخارجین من ربقة الدین، المناصبین العداء لما ینزل من رب العالمین؟!.

من العار الشنیع على الدین أن تتسمى بأمیرالمؤمنین، و أن تکون خلیفة للمسلمین، ما زلت تفعل و تفعل مع امام الهدى و الحجة على الورى.

أما فى تحف العقول، فورد ذکر المجلس هکذا:

«دخل على الرشید و قد عمد على القبض علیه لأشیاء کذبت علیه عنده. فأعطاه طومارا طویلا فیه مذاهب و شنعة نسبها الى شیعته.

فقرأه، ثم قال: یا أمیرالمؤمنین، نحن أهل بیت منینا بالتقول علینا، و ربنا غفور ستور، أبى أن یکشف أسرار عباده الا فى وقت محاسبته (یوم لا ینفع مال و لا بنون (88) الا من أتى الله بقلب سلیم (89))(23)

ثم قال: حدثنى أبى، عن أبیه، عن على، عن النبى صلوات الله علیهم: الرحم اذا مست الرحم اضطربت، ثم سکنت. فان رأى أمیرالمؤمنین أن تمس رحمى رحمه و یصافحنى فعل.

فتحول عند ذلک عن سریره، و مد یده الى موسى علیه‏السلام فأخذ بیمینه، ثم ضمه الى صدره فاعتنقه و أقعده عن یمینه و قال: أشهد أنک صادق، و أبوک صادق، و جدک صادق، و رسول الله صلى الله علیه و آله و سلم صادق!. و لقد دخلت و أنا أشد الناس علیک حنقا و غضبا لما رقى الى فیک. فلما تکلمت بما تکلمت و صافحتنى سرى عنى، و تحول غضبى علیک رضى.

و سکت ساعة، ثم قال له: أرید أن أسألک عن العباس و على، بم صار على أولى بمیراث رسول الله صلى الله علیه و آله و سلم من العباس، و العباس عم رسول الله صلى الله علیه و آله و سلم و صنو أبیه؟!.

فقال له موسى بن جعفر علیه‏السلام: اعفنى.

قال: والله لا أعفیک، فأجبنى.

قال: ان لم تعفنى فأمنى.

قال: آمنتک.

قال موسى علیه‏السلام: ان النبى صلى الله علیه و آله و سلم لا یورث من قدر على الهجرة و لم یهاجر. ان أباک العباس آمن و لم یهاجر. و ان علیا علیه‏السلام آمن و هاجر، و قال الله: (و الذین ءامنوا و لم یهاجروا و ما لکم من ولایتهم من شى‏ء حتى یهاجروا).(7)

فالتمع لون الرشید و تغیر، و قال: مالکم لا تنسبون الى على و هو أبوکم، و تنسبون الى رسول الله صلى الله علیه و آله و سلم، و هو جدکم؟!.

فقال موسى علیه‏السلام: ان الله نسب المسیح عیسى بن مریم علیه‏السلام الى خلیله ابراهیم علیه‏السلام بأمه مریم البکر البتول التى لم یمسسها بشر بقوله: (و من ذریته داود و سلیمان و أیوب و یوسف و موسى و هارون و کذلک نجزى

المحسنین (84) و زکریا و یحیى و عیسى و الیاس کل من الصالحین (85)… ((24) فنسبه بأمه وحدها الى خلیله ابراهیم علیه‏السلام، کما نسب داود، و سلیمان، و أیوب، و موسى، و هارون علیهم‏السلام بآبائهم و أمهاتهم، فضیلة لعیسى علیه‏السلام، و منزلة رفیعة بأمه وحدها؛ وذلک قوله فى قصة مریم علیهاالسلام: (ان الله اصطفاک و طهرک و اصطفاک على نساء العالمین (42))(25) بالمسیح من غیر بشر. و کذلک اصطفى ربنا فاطمة علیهاالسلام، و طهرها و فضلها على نساء العالمین بالحسن و الحسین سیدى شباب أهل الجنة.

فقال له هارون: – و قد اضطرب و ساءه ما سمع -: من أین قلتم: الانسان یدخله الفساد من قبل النساء، و من قبل الآباء، لحال الخمس الذى لم یدفع الى أهله؟!.

فقال موسى علیه‏السلام: هذه مسألة ما سألها أحد من السلاطین غیرک – یا أمیرالمؤمنین – و لا تیم، و لا عدى، و لا بنوأمیة، و لا سئل عنها أحد من آبائى؛ فلا تکشفنى عنها.

قال: فان بلغنى عنک کشف هذا، رجعت عما آمنتک.

فقال موسى علیه‏السلام: لک ذلک.

قال: فان الزندقة قد کثرت فى الاسلام، و هؤلاء الزنادقة الذین یرفعون الینا، فى الأخیار هم المنسوبون الیکم، فما الزندیق عندکم أهل البیت؟!.

فقال علیه‏السلام: الزندیق هو الراد على الله و رسوله. و هم الذین یحادون الله و رسوله، قال الله: (لا تجد قوما یؤمنون بالله و الیوم الأخر یوآدون من

حاد الله و رسوله و لو کانوا ءاباءهم أو أبناءهم أو اخوانهم أو عشیرتهم… آخر آخر الآیة)(26) و هم الملحدون، عدلوا عن التوحید الى الالحاد.

فقال هارون: أخبرنى عن أول من ألحد و تزندق.

فقال موسى علیه‏السلام: أول من ألحد و تزندق فى السماء ابلیس اللعین، فاستکبر و افتخر على صفى الله و نجیه آدم علیه‏السلام، فقال اللعین: (أنا خیر منه خلقتنى من نار و خلقته من طین (12))(27) فعتا عن أمر ربه و ألحد، فتوارث الالحاد ذریته الى أن تقوم الساعة.

فقال: و لا بلیس ذریة؟!.

فقال علیه‏السلام: نعم، ألم تسمع الى قول الله: (و اذ قلنا للملائکة اسجدوا لأدم فسجدوا الا ابلیس کان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه و ذریته أولیاء من دونى وهم لکم عدو بئس للظالمین بدلا (50) ما أشهدتهم خلق السموات و الأرض و لا خلق أنفسهم و ما کنت متخذ المضلین عضدا (51)(28) لأنهم یضلون ذریة آدم یزخارفهم و کذبهم، و یشهدون أن لا اله الا الله کما وصفهم الله فى قوله: (و لئن سألتهم من خلق السموات و الأرض لیقولن الله قل الحمدلله بل أکثرهم لا یعلمون (25))(29) أى أنهم لا یقولون ذلک الا تلقینا، و تأدیبا، و تسمیة و من لم یعلم، و ان شهد، کان شاکا حاسدا معاندا، و لذلک قالت العرب: من جهل أمرا عاداه، و من قصر عنه عابه و ألحد فیه، لأنه جاهل، غیر عالم»(30)

و اذا لم نقف قلیلا مع ما جرى فى هذا المجلس، لا نکون قد أنصفنا حقیقة البحث و التحلیل، لأنه قد جرت فیه محاورة، بل محاجة هامة للغایة؛ و قد ظهر على أثر ذلک بعض الحقائق التى تستحق الوقوف.

فمن ذلک أن الخلیفة على المسلمین، لم یتأدب بأدب الاسلام، اذ لم یرد التحیة على الامام عندما دخل و سلم علیه، مع أن الله سبحانه و تعالى أمر برد التحیة کأقل الواجب فقال عز من قائل: (و اذا حییتم بتحیة فحیوا بأحسن منها أو ردوها…)(31) و قد أمر بذلک أمرا و جوبیا… لم یسمع به خلیفة المسلمین!!! فاضطر الامام علیه‏السلام لا یراد حدیث الرحم اذا مست الرحم.

و منها – أیضا – مفاجأته للامام بقوله: یا موسى بن جعفر، خلیفتان یجبى الیهما الخراج؟!.

و منها دموع التمساح التى انحدرت من عینى هارون… أو قارون.

و مثلها هجمته على الامام لیحتضنه و یثبت أن عرق القرابة قد تحرک و أصابته رقة الممثلین على خشبة المسرح!.

و کذلک أسئلة التعجیز التى اختارها. و هى ان دلت فانما تدل على اللؤم الحاقد، لأنها کانت منتقاة لمضایقة الامام علیه‏السلام، فهى عملیة احراج للامام، و اخراج للخلیفة… جاءت فاشلة و الحمدلله، اذ نسى الخلیفة أنه بین یدى امام انتدبته السماء، فلا یرتج علیه، و لا یتلعثم و لا یصعب علیه جواب.

و من ذلک – أخیرا – أن امامنا العظیم سلام الله علیه، قد أذل کبریاء هذا القارون المتربب على الناس، المتأله علیهم بقرابته من

رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم، فبین للناس أنه أبعد منه عن النبى صلى الله علیه و اله و سلم فى النسب و فى الحق…. ثم کشف عن جهل الخلیفة بالقرآن و بالایمان، و عن بطلان دعواه و ادعاءاته.

ثم یلاحظ أن الخلیفة قد تنقل مع امامنا علیه‏السلام بین جملة مواضیع هامة للغایة، و أنه کان یذعن لقول الامام البلیغ فى کل مسألة، ثم یقفز الى مسألة ثانیة مشابهة… و سلم بکل جواب، ثم ختم ذلک باعترافه الذى أفضى به لولده المأمون، الذى لم یکن مأمونا على أهل هذا البیت الذى طهره الله تعالى فى کتابه العزیز.

… أفأنت هارون الرشید کما لقبت نفسک، أم أنت قارون العنید کما هى حقیقتک و واقعک؟!. لقد غشک فى دنیاک أنک أثناء تربعک على العرش کنت تقول للغمامة: أمطرى أنى شئت فان خراجک سیعود الى… ثم نسیت أن لک موقفا یوم الحساب تسأل فیه عما أسرفت فى حیاتک!. ذلک أنک لم تکن من المؤمنین بالموقف و بالحساب، و اذا ادعیت أنک مؤمن بذلک، فنحن نحکم بسفهک حین ترضى بلذة زائلة، و ترضى – أیضا – بالخلود فى العذاب و تکون من (أولئک الذین اشتروا الحیوة الدنیا بالأخرة فلا یخفف عنهم العذاب و لا هم ینصرون (86))(32)

فلم تکن رشیدا بالحقیقة بمقدار ما کنت عنیدا، و لم یکن رأیک سدیدا، بل کنت – کأسلافک – جبارا عنیدا.

و الشى‏ء الأکید أن هذا الخلیفة الغافل عما یراد به، کان ذکیا، ولکنه استثمر ذکاءه لتأثیل ملک دنیوى، و غابت عن ذهنه آخرته باعها بدار الغرور،

و لم یحمل الیها الا الأوزار و الآثام… مع أنه لم یکن غبیا قطعا، و لا فاته العلم بأن الامام سفیر من ربه الى خلقه، و لا خفیت علیه امامته و جدارته، ولکن حب التسلط على الرقاب ألقى هذا الحبل فى عنقه، لیکون فى الآخرة سلسلة ذرعها سبعون ذراعا…

فلا شک أن جرم هذا الخلیفة مزدوج لأن مجالسه مع الامام قد سجلها علیه التاریخ، و ظهرت فیها معرفته بالحق معرفة تامة، و اتضح حربه للحق اتضاحا أتم، اذا استغرقت الدنیا جمیع تفکیره و أنسته أن الامام الذى تقلب فى سجونه أربعة أعوأم، سیکون جزاؤه هو – بمقابل ذلک – أن یتقلب فى عذاب الله الشدید أحقابا…

ولنتصور الفرق بین هذا الخلیفة الظالم للامام الکاظم علیه‏السلام، و بین عفو الامام عنه فى مواطن القدرة علیه – مع قدرة الامام علیه فى کل لحظة باذن الله – أقول: لتتصور الفرق العظیم نعرض أمام ناظریک الروایة التالیة:

فقد قیل: «و لما أمر هارون موسى بن جعفر علیه‏السلام أن یحمل الیه – من البصرة الى بغداد بعد أن رفض الوالى أن یقتله – أدخل علیه و على بن یقطین على رأسه، متوکى‏ء على سیفه، فجعل یلاحظ موسى علیه‏السلام لیأمره فیضرب به هارون – لأن ابن‏یقطین متشیع متشدد-.

ففطن هارون، فقال: قد رأیت ذلک.

فقال – ابن‏یقطین -: یا أمیرالمؤمنین، سللت من سیفى شبرا رجاء أن تأمرنى فیه بأمرک.

فنجا – ابن‏یقطین – منه بهذه المقالة»(33)

فلو أن الامام علیه‏السلام أشار لعلى بن یقطین لیغتال الرشید، لکان خلط لحمه بدمه. ولکن ما أبعد الامام عن الغدر، و هو أمین الله فى أرضه؟!.

و على بن یقطین هو من هو فى تشیعه و حبه للامام، و فى اخلاصه و ولائه لجمیع أئمة هذا البیت المطهر علیهم‏السلام. و قد دفعه ذلک الولاء الى أن یطمع فى جز عنق هارون الرشید الذى یرعب امامه مرة بعد مرة، و لم یأسف لوظیفته و لا للوزارة و المنصب بعد أن یطهر سیفه بدم هذا الغاصب الناصب!. و قد خلصه الله سبحانه و تعالى حین أطلق لسانه بأن قال للخلیفة لما عرف أنه أراد قتله: سللت من سیفى شبرا رجاء أن تأمرنى فیه بأمرک. یعنى أنه قال عکس ما أضمر فأبقى على نفسه و نجا من فتک الخلیفة.

ولکننا نؤاخذ على بن یقطین لأنه نسى أن الأئمة علیهم‏السلام لا یغدرون بخصومهم، و لا یهتمون بشؤون الدنیا التى تشغل غیرهم بسلطانها الذاهب کما تذهب الشمس مهما طال نهار الصیف.

«و فى کتاب الأنوار قال العامرى:

ان هارون الرشید أنفذ الى موسى بن جعفر جاریة حصیفة لها جمال و رضاءة – أى نظیفة، مشرقة الوجه، بالغة الحسن – لتخدمه فى السجن.

فقال – الامام علیه‏السلام -: قل له: (بل أنتم بهدیتکم تفرحون (36))(34) لا حاجة لى فى هذه، و لا فى أمثالها.

قال: فاستشاط هارون غضبا، و قال: ارجع الیه، و قل له: لیس برضاک حبسناک، و لا برضاک خدمناک. و اترک الجاریة عنده و انصرف.

قال: فمضى و رجع.

ثم قام هارون من مجلسه، و أنفذ الخادم الیه لیتفحص له عن حالها.

فرآها ساجدة لربها، لا ترفع رأسها، تقول: قدوس سبحانک سبحانک.

فقال هارون الرشید: سحرها والله موسى بن جعفر بسحره!. على بها.

فأتى بها و هى ترتعد شاخصة نحو السماء بصرها!.

فقال: ما شأنک؟!.

قالت: شأنى الشأن البدیع!. کنت عنده واقفة، و هو قائم یصلى لیله و نهاره. فلما انصرف من صلاته بوجهه و هو یسبح الله و بقدسه، قلت: یا سیدى هل لک حاجة أعطیکها؟.

قال: و ما حاجتى الیک؟!.

قلت: انى أدخلت الیک لحوائجک.

قال: فما بال هؤلاء؟!.

قالت: فالتفت فاذا روضة مزهرة لا أبلغ آخرها من أولها بنظرى، و لا أولها من آخرها. فیها مجالس مفروشة بالوشى و الدیباج، علیها و صفاء و وصائف و خدام، لم أر مثل وجوههم حسنا، و لا مثل لباسهم لباسا، علیهم الحریر، الأخضر، و الأکالیل، والدر، و الیاقوت، و فى أیدیهم الأباریق و المنادیل، و من کل الطعام!. فخررت ساجدة حتى أقامنى هذا الخادم فرأیت نفسى حیث کنت.

قال هارون الرشید: یا خبیثه لعلک سجدت فنمت، فرأیت هذا فى منامک.

قالت: لا والله یا سیدى، الا قبل سجودى. رأیت، فسجدت من أجل ذلک.

فقال الرشید: اقبض هذه الخبیثة الیک، فلا یسمع هذا منها أحد.

فأقبلت فى الصلاة. فاذا قیل لها فى ذلک قالت: هکذا رأیت العبد الصالح.

فسئلت عن قولها؟. قالت: انى لما عاینت من الأمر، نادتنى الجوارى: یا فلانة، ابعدى عن العبد الصالح حتى ندخل علیه، فنحن له دونک!.

فما زالت کذلک حتى ماتت؛ و ذلک قبل موسى بأیام یسیرة»(35)

و لا یبعد أن یکون الخلیفة قد أمر بأن یدس لها السم فى الطعام.

فالخلیفة الذى یدعى أنه مسلم، یقول لمعاجز السماء: هذا سحر مفترى!.

هو یعترف بأن الامام امام حق مرارا و تکرارا، و أمام الغریب من أصحابه، و القریب من أولاده، ثم یتهمه بالسحر!. فلماذا هذا؟!.

انه من (الذین ءامنوا ثم کفروا ثم ءامنوا ثم کفروا…)(36) من جهة، ثم ثبت على الکفر.

و هو یفعل ذلک لیقول الناس بقوله، و یشتهر عند النصاب أن الامام ساحر… فیتهم بالسحر کما اتهم جده رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم بالسحر من قبل الکفرة و المشرکین، مع علمهم بنبوته، ولکن لتشتهر هذه الصفة و تمشى على ألسنة الناس.

فما باله – و هو یعتبر الدین خرافة، و المعجزة سحرا – ما باله یجلس على منبر رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم، و یحکم باسم دینه؟!.

لقد اتبع قول من سبقه فى النبى: (اذ یقول الظالمون ان تتبعون الا رجلا مسحورا(47))(37) فما باله هو و الکافرون؟!. (أتواصوا به…)(38) بهذا القول الذى قابل الظالمون به کل نبوة…

ان هذه الوصیفة قد أبانت شیئا من أسرار أنباء هذا البیت الذین أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهیرا؛ و أبانته بعد أن رأته رأى العین، و آمنت به، و أیقنت بعظمة الامام علیه‏السلام، و برفیع منزلته عند خالقه… فکفر الخلیفة بقولها… و سمى ما رأته سحرا.

فسحقا لخلافة اسلامیة ترى معاجز السماء سحرا بسحر!.

و تعسا له حین یأمر خادمه بأن لا یسمع قولها أحد… (یریدون أن یطفؤا نور الله بأفواههم و یأبى الله الا أن یتم نوره و لو کره الکافرون (32))(39)

قال الفضل بن الربیع، و رجل آخر – لم یذکر اسمه -:

«حج هارون الرشید، و ابتدا بالطواف و منعت العامة من ذلک لینفرد وحده.

فبینما هو کذلک اذ ابتدر أعرابى البیت، و جعل یطوف معه.

و قال الحجاب: تنح یا هذا من وجه الخلیفة.

فانتهرهم الأعرابى و قال: ان الله ساوى بین الناس فى هذا الموضع فقال: (سوآء العاکف فیه و الباد…)(40)

فأمر الحاجب بالکف عنه.

فلما طاف الرشید، طاف الأعرابى أمامه؛ فنهض الى الحجر الأسود لیقبله، فسبقه الأعرابى و التثمه.

ثم صار الرشید الى المقام لیصلى فیه، فصلى الأعرابى أمامه.

فلما خرج الرشید من صلاته استدعى الأعرابى؛ فقال الحجاب: أجب أمیرالمؤمنین.

فقال: ما لى الیه حاجة فأقوم الیه. بل ان کانت الحاجة له، فهو بالقیام الى أولى.

قال – أى الرشید -: صدق.

فمشى الیه، و سلم علیه، فرد علیه‏السلام.

فقال هارون الرشید: أجلس یا أعرابى؟.

فقال: ما الموضع لى فتستأذننى فیه بالجلوس. انما هو بیت الله نصبه لعباده، فان أحببت أن تجلس فاجلس، و ان أحببت أن تنصرف انصرف.

فجلس هارون و قال: ویحک یا أعرابى، مثلک من یزاحم الملوک؟!.

قال: نعم، و فى مستمع.

قال: فانى سائلک، فان عجزت آذیتک.

قال: سؤالک هذا، سؤال متعلم، أو سؤال متعنت؟!.

قال: بل متعلم.

قال: اجلس مکان السائل من المسؤول، وسل. و أنت مسؤول.

فقال – أى الرشید -: أخبرنى ما فرضک؟.

قال: ان الفرض، رحمک الله، واحد، و خمسة، و سبعة عشر، و أربع و ثلاثون، و أربع و تسعون، و مائة و ثلاثة و خمسون على سبعة عشر، و فى اثنى عشر واحد، و فى أربعین واحد.

قال: فضحک الرشید و قال: ویحک، أسألک عن فرضک و أنت تعد على الحساب؟!.

قال: أما علمت أن الدین کله حساب؟!. و لو لم یکن الدین حسابا لما اتخذ الله للخلائق حسابا. ثم قرأ: (و ان کان مثقال حبة من خردل أتینا بها و کفى بنا حاسبین (47))(41)

قال: فبین لى ما قلت، و الا أمرت بقتلک بین الصفا و المروة.

فقال الحاجب: تهبه لله، و لهذا المقام.

قال: فضحک الأعرابى من قوله.

فقال الرشید: مم ضحکت یا أعرابى؟.

فقال: تعجبا منکما، اذ لا أدرى من الأجهل منکما: الذى یستوهب أجلا قد حضر، أو الذى استعجل أجلا لم یحضر؟!.

فقال الرشید: فسر ما قلت.

قال: أما قولى: الفرض واحد، فدین الاسلام کله واحد. و علیه خمس صلوات فى سبع عشرة رکعة. و أربع و ثلاثون سجدة، و أربع و تسعون تکبیرة، و مائة و ثلاث و خمسون تسبیحة.

و أما قولى: من اثنى عشر واحد، فصیام شهر رمضان، من اثنى عشر شهرا.

و أما قولى: من الأربعین واحد، من ملک أربعین دینارا، أوجب الله علیه دینارا.

و أما قولى: من مائتین خمسة، فمن ملک مائتى درهم؛ أوجب الله علیه خمسة دراهم.

و أما قولى: فمن الدهر کله واحد، فحجة الاسلام.

و أما قولى: من واحد واحد، فمن أهرق دما فى غیر حق، وجب اهراق دمه. قال الله تعالى: (النفس بالنفس…)(42)

فقال الرشید: لله درک!. و أعطاه بدرة.

فقال: بم أستوجب منک هذه البدرة یا هارون؟. بالکلام أو بالمسألة؟.

قال: بلا بالکلام.

قال: فانى سائلک عن مسألة، فان أنت أتیت بها، کانت البدرة لک، تصدق بها فى هذا الموضع الشریف. فان لم تجبنى عنها، أضفت الى البدرة بدرة أحرى، لأتصدق بها على فقراء الحى من قومى.

فأمر بایراد أخرى، و قال: سل عما بدالک.

فقال: أخبرنى عن الخنفساء، تزق، أم ترضع ولدها؟!.

فخرد هارون – أى طال سکوته – و قال: ویحک یا أعرابى، مثلى من یسأل عن هذه المسألة؟.

فقال: سمعت ممن سمع من رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم، یقول: من ولى أقواما وهب من العقل کعقولهم. و أنت امام هذه الأمة یجب أن لا تسأل عن شى‏ء

من أمر دینک و من الفرائض، الا و أجبت عنها. فهل عندک له جواب؟!.

قال هارون: رحمک الله، لا. فبین لى ما قلته و خذ البدرتین.

فقال: ان الله تعالى لما خلق الأرض، خلق دبابات الأرض من غیر فرث و لا دم؛ خلقها من التراب، و جعل رزقها و عیشها منه. فاذا فارق الجنین أمه، لم تزقه، و لم ترضعه، و کان عیشها من التراب.

فقال هارون: والله ما ابتلى أحد بمثل هذه المسألة.

و أخذ الأعرابى البدرتین و خرج. فتبعه بعض الناس و سأله عن اسمه، فاذا هو موسى بن جعفر بن محمد، علیهم‏السلام.

و أخبر هارون بذلک، فقال: والله قد رکنت أن تکون هذه الورقة من تلک الشجرة!»(43)

فیابن الحلال الذى یعرف الورقة و شجرتها!.

ما بالک ترید أن تعرى هذه الشجرة من ورقها؟!.

ولکن ثق أنها شجرة أصلها ثابت و فرعها فى السماء.

و هى تؤتى أکلها کل حین باذن ربها.

و حصرمة الملک أعمت عینک، و أعمت بصیرتک.

… و هذا الأعرابى العظیم یزاحم الملوک و یلوى أعناقها!.

و مذ زاحمته فى اغتصاب حقه، بؤت بسخط الله و رسوله، و ستتبوأ المقعد الذى یلیق بک فى الآخرة.

قال على بن حمزة:

«کان یتقدم الرشید الى خدمه اذا خرج موسى بن جعفر من عنده أن یقتلوه!.

فکانوا یهمون به فیتداخلهم من الهیبة و الزمع. – أى الدهشة و الرهبة -.

فلما طال ذلک أمر بتمثال من خشب، و جعل له وجها مثل موسى بن جعفر، و کانوا اذا سکروا أمرهم أن یذبحوه بالسکاکین، فکانوا یفعلون ذلک أبدا.

فلما کان فى بعض الأیام، جمعهم فى الموضع و هم سکارى، و أخرج سیدى الیهم؛ فلما بصروا به هموا به على رسم الصورة. فلما علم منهم ما یریدون، کلمهم بالخزریة و الترکیة، فرموا من أیدیهم السکاکین، و وثبوا الى قدمیه فقبلوهما، و تضرعوا الیه، و تبعوه الى أن شیعوه الى المنزل الذى کان ینزل فیه.

فسألهم الترجمان عن حالهم، فقالوا: ان هذا الرجل یصیر الینا فى کل عام، فیقضى أحکامنا، و یرضى بعضنا من بعض، و نستسقى به اذا قحط بلدنا، و اذا نزلت بها نازلة فزعنا الیه.

فعاهدهم أن لا یأمرهم بذلک، فرجعوا»(44)

فلماذا هذا الکید لبنى المصطفى صلى الله علیه و اله و سلم؟. لم یفعل مثله مشرکو قریش، و لا کفار الأرض یا صانع التمثال!.

هل صدقت نفسک الأمارة بالسوء حین سولت لک هذا هذا التمثال الخشبى لتحارب به ابن‏النبى؟!. بل لتحارب به مشیئة الرب العلى.

لا بد أنک صدقتها، کما صدقت المتزلفین و الکذابین حین سموک أمیرالمؤمنین، و أنت فى قصر تفوح منه روائح البغى و الجور، و الفسق و الفجور، و جمیع الموبقات التى حاربها الرسول و رب الرسول.

ان الوقت الذى صرفته بالتفکیر و بصنع التمثال، کان یغنیک عنه اقامة حد من حدود الشرع ترضى به الله عز اسمه و ترضى به الامام الذى تحاربه. و ستحمل وزر ذلک و تبعته الثقیلة الى یوم القیامة، و ستتحمل ذلک الى جانب التبعات الأخرى الکبرى، لأن ذنوبک کلها کبائر: بدءا من جلوسک على منبر رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم بغیر حق، و انتهاء بالجرائم النکراء التى کانت ترتکب داخل قصرک و خارجه فى أنحاء البلاد، و بأمرک وحدک…

هذا، و قد کان هذا الخلیفة الجبار یعتقل الامام و یشرده عن أهله و دیاره ظلما و عدوانا کما رأینا، فى حین کان الامام علیه‏السلام یقضى حوائج المحتاجین من العباسیین، و یمشى فى مصالح المضطرین منهم؛ فقد روى أن محمد بن سلیمان قال:

«لما حمل سیدى موسى بن جعفر علیه‏السلام الى هارون الرشید، جاء الیه هشام بن ابراهیم العباسى و قال له: یا سیدى، ترکب الى الفضل بن یونس تسأله أن یروج أمرى. – ذلک أنه یحمل صکا علیه بدین له عنده -.

فرکب الیه أبوالحسن علیه‏السلام، فدخل حاجبه فقال: یا سیدى، أبوالحسن، موسى علیه‏السلام، بالباب.

فقال: ان کنت صادقا، فأنت حر، ولک کذا و کذا.

فخرج الفضل بن یونس حافیا یعدو، حتى خرج الیه فوقع على قدمیه یقبلهما؛ ثم سأله أن یدخل.

فدخل، فقال له: اقض حاجة هشام بن ابراهیم.

فقضاها؛ و طلب الى الامام علیه‏السلام أن یکرمه بالغداء عنده، فتغدى عنده»(45)

فهو علیه‏السلام یحسن لبنى عمه العباس، و یصل بذلک رحمهم، و هم یسیئون الیه، و یقطعون به رحم رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم، و لذلک قطع الله نسلهم عن وجه الأرض، و کثر نسله فملأ الدنیا فلا تجد فیها الا سیدا موسویا، و الحمدلله.

… أما خلیفة الزمان، فقد کان یتلهى مع الامام بأسئلة تافهة أحیانا لیغطى على جوهر حبسه و تشریده. فاستمع الى ما رواه هانى بن محمد بن محمود العبدى، عن أبیه باسناده، حیث قال:

«ان موسى بن جعفر علیه‏السلام، دخل على الرشید، فقال له الرشید: یابن رسول الله، أخبرنى عن الطبائع الأربع.

فقال موسى علیه‏السلام: أما الریح فانه ملک یدارى. و أما الدم فانه عبد غارم، و ربما قتل العبد مولاه. و أما البلغم فانه خصم جدل، ان سدد من جانب انفتح من جانب آخر. و أما المرة، فانها أرض اذا اهتزت رجفت بما فوقها.

فقال هارون: یابن رسول الله، تنفق على الناس من کنوز الله تعالى و رسوله صلى الله علیه و اله و سلم»(46)

و قارئى الکریم، و أنا، نرى أن الامام علیه‏السلام یرمز فى تعریفه للطبائع الأربع الى شى‏ء خفى علینا. ولکن ذلک الشى‏ء الذى عناه لم یخف على الرشید قطعا… فلربما کان قد أجرى له ذلک التحلیل الرمزى لیبین له أنه ربما قتل العبد مولاه!. أو أنه عنى غیر ذلک. فالمهم أن الرشید فهم ما أراد الامام. ولکن الا هم هو أن نفهم نحن لماذا کان الرشید یحور و یدور على أسئلة کهذه، و لا یسأل الامام عن أشیاء جوهریة لها مساس بحکمه الظالم؟!. و بأسباب حبس الامام و وضعه فى قفص الاتهام دون ذنب أو جرم؟!.

«و روى الشریف المرتضى فى «الغرر» عن أبى‏عبدالله علیه‏السلام، باسناده عن أیوب بن الحسین الهاشمى، أنه حضر باب الرشید رجل یقال له: نفیع الأنصارى، و حضر موسى بن جعفر على حمار له، فتلقاه الحاجب بالاکرام، و عجل له بالاذن.

فسأل نفیع عبدالعزیز بن عمر: من هذا الشیخ؟.

قال: شیخ آل أبى‏طالب، شیخ آل محمد؛ هذا موسى بن جعفر.

قال: ما رأیت أعجز من هؤلاء القوم – أى العباسیین – یفعلون هذا برجل یقدر أن یزیلهم عن السریر. أما ان خرج لأسوأه.

فقال عبدالعزیز: لا تفعل: فان هولاء أهل بیت قلما تعرض لهم أحد فى الخطاب، الا و سموه فى الجواب سمة یبقى عارها علیه مدى الدهر.

قال: و خرج موسى، و أخذ نفیع بلجام حماره و قال: من أنت یا هذا؟!.

قال: یا هذا، ان کنت ترید النسب أنا ابن‏محمد حبیب الله، ابن‏

اسماعیل ذبیح الله، ابن‏ابراهیم خلیل الله. و ان کنت ترید البلد، فهو الذى فرض الله على المسلمین، ان کنت منهم، الحج الیه. و ان کنت ترید المفاخرة فوالله ما رضى مشرکو قومى مسلمى قومک أکفاءهم حتى قالوا: یا محمد، أخرج الینا أکفاءنا من قریش!. و ان کنت ترید الصیت والاسم، فنحن الذین أمر الله بالصلاة علینا فى الصلوات المفروضة، تقول: اللهم صل على محمد و آل محمد، فنحن آل محمد.

خل عن الحمار.

فخلى عنه ویده ترقعد، و انصرف مخزیا.

فقال له عبدالعزیز: ألم أقل لک؟!»(47)

و نعیما یا نفیع، و ما نفعک غرورک!.

بل نعیما یا ضریر، یا أعمى البصر و البصیرة… ورثاء لسوء حالک بعد أن أردت الاساءة الى الامام علیه‏السلام، فأیبس یدک على لجام حماره. یا حمار!.

و سحقا لأمثالک من أهل العناد الذین طغوا فى البلاد فأکثروا فیها الفساد، فصب علیهم ربک سوط عذاب…

و من تعرض لما لا یعنیه، أصیب بما لا یرضیه… یا نفیع… یا وضیع!.

قال محمد بن على بن ماجیلویه:

«لما حبس هارون الکاظم علیه‏السلام، جن علیه اللیل، فجدد موسى طهوره فاستقبل بوجهه القبلة، و صلى أربع رکعات، ثم دعا فقال:

یا سیدى نجنى من حبس هارون، و خلصنى من یده یا مخلص الشجر من بین رمل و طین، و یا مخلص النار من بین الحدید و الحجر، و یا مخلص اللبن من بین فرث و دم، و یا مخلص الولد من بین مشیمة و رحم، و یا مخلص الروح من بین الأحشاء و الأمعاء، خلصنى من ید هارون الرشید.

قال: فرأى هارون رجلا أسود بیده سیف قد سله، واقفا على رأس هارون و هو یقول: یا هارون، أطلق عن موسى بن جعفر، و الا ضربت علاوتک – أى عنقک – بسیفى هذا!.

فخاف من هیبته ثم دعا بحاجبه.

فجاء الحاجب فقال له: اذهب الى السجن، و أطلق موسى بن جعفر».(48)

«و فى روایة عن الفضل بن الربیع، أنه قال: سر الى حبسنا، و أخرج موسى بن جعفر، وادفع الیه ثلاثین ألف درهم، واخلع علیه خمس خلع، واحمله على ثلاث مراکب. و خیره: اما المقام معنا، أو الرحیل الى أى البلاد أحب.

فلما عرض الخلع علیه أبى أن یقبلها».(49)

و فى روایة عن على بن ابراهیم بن هاشم، عن أبیه، قال فى نهایتها:

«فخرج الحاجب، فقرع باب السجن، فأجابه صاحب السجن، فقال: من ذا؟!.

قال: ان الخلیفة یدعو موسى بن جعفر، فأخرجه من سجنک، و أطلق عنه.

فصاح السجان: یا موسى، ان الخلیفة یدعوک.

فقام موسى مذعورا فزعا و هو یقول: لا یدعونى فى جوف هذا اللیل الا لشر یریده بى.

فجاء الى هارون، فقال: سلام على هارون.

فرد علیه‏السلام، ثم قال له: ناشدتک الله، هل دعوت فى جوف هذا اللیل بدعوات؟.

فقال: نعم.

قال: و ما هن؟!.

فذکر له ما فعل و ما دعا.

فقال هارون: قد استجاب الله دعوتک. ثم دعا بخلع، فخلع علیه ثلاثا، و حمله على فرسه و أکرمه. و بقى عند هارون کریما، شریفا، یدخل علیه فى کل خمیس، الى أن حبسه الثانیة، و توفى فى حبسه»(50)

و ما کان الامام علیه‏السلام، لیفعل ذلک من الدعاء بالخلاص، الا لیعرف خلیفة الزمان المزیف، أنه اذا دعا الله استجاب له، و أنه لم یدع على الخلیفة مطلقا، لیستکمل مدته من الظلم و الجور الذى هو علیه؛ و کذلک لیعرفنا – نحن أیضا – أنه یستطیع أن ینجو فى کل لحظة من خطر هؤلاء الظلمة، و أن یزیلهم عن مراتبهم. ولکنه علیه‏السلام مأمور بالصبر کآبائه صلوات الله علیهم، و سکوته ینجیه ردحا من الزمن یقول فیه کلمة الحق بین الناس، فى مجالس

الأمراء، و فى قصورهم کما فى سجونهم، لیلقى الحجة علیهم و على أتباعهم. و هو یعمل بموجب المیثاق الذى بیده من جده سید المرسلین و خاتم النبیین صلوات الله علیه و على أهل بیته… فالامام مرصود لأمر خاص من الله تبارک و تعالى، و هو لا یحید عن الخط المرسوم له قید شعرة، فاذا انتهى ما هو مأمور به فى عهد جده صلى الله علیه و اله و سلم ینتهى أمره و یلحق بآبائه الطاهرین علیهم‏السلام.

و قال المسعودى فى (مروج الذهب) تحت هذا العنوان:

«رؤیا الرشید یؤمر بالتخلیة عن موسى بن جعفر – حین کان فى حبسه -:

و ذکر عبدالله بن مالک الخزاعى – و کان على دار الرشید و شرطته – قال:

أتانى رسول الرشید فى وقت ما جاءنى فیه قط، فانتزعنى من موضعى، و منعنى من تغییر ثیابى، فراعنى ذلک منه.

فلما صرت الى الدار سبقنى الخادم فعرف الرشید خبرى، فأذن لى فى الدخول علیه.

فدخلت، فوجدته قاعدا على فراشه، فسلمت.

فسکت ساعة، فطار عقلى و تضاعف الجزع على، ثم قال لى:

یا عبدالله، أتدرى لم طلبتک فى هذا الوقت؟.

قلت: لا والله یا أمیرالمؤمنین.

قال: انى رأیت الساعة فى منامى کأن جیشا قد أتانى و معه حربة، فقال لى: ان لم تخل عن موسى بن جعفر الساعة، و الا نحرتک بهذه الحربة.

فاذهب، فخل عنه.

فقلت: یا أمیرالمؤمنین، أطلق موسى بن جعفر؟!. ثلاثا.

قال: نعم، امض الساعة حتى تطلق موسى بن جعفر؛ و أعطه ثلاثین ألف درهم، و قل له: ان أحببت المقام قبلنا، فلک عندى ما تحب، و ان أحببت المضى – الانصراف – الى المدینة، فالاذن فى ذلک الیک.

قال – عبدالله بن مالک الخزاعى -: فمضیت الى الحبس لأخرجه، فلما رآنى موسى و ثب الى قائما، و ظن أنى قد أمرت فیه بمکروه. فقلت: لا تخف، و قد أمرنى أمیرالمؤمنین باطلاقک، و أن أدفع لک ثلاثین ألف درهم. و هو یقول لک: ان أحببت المقام قبلنا فلک ما تحب، و ان أحببت الانصراف الى المدینة فالأمر فى ذلک مطلق الیک.

و أعطیته الثلاثین ألف درهم، و خلیت سبیه، و قلت: لقد رأیت فى أمرک عجبا. قال: فانى أخبرک. بینما أنا نائم اذ أتانى النبى صلى الله علیه و اله و سلم، فقال:

یا موسى، حبست مظلوما، فقل هذه الکلمات: فانک لا تبیت هذه اللیلة فى الحبس.فقلت: بأبى و أمى، ما أقول؟.

فقال: قل: یا سامع کل صوت، و یا سابق الفوت، و یا کاسى العظام و منشرها بعد الموت، أسألک بأسمائک الحسنى، و باسمک الأعظم الأکبر المخزون المکنون، الذى لم یطلع علیه أحد من المخلوقین، یا حلیما ذا أناة لا یقوى على أناته، یا ذا المعروف الذى لا ینقطع أبدا، و لا یحصى عددا، فرج عنى.

فکان ما ترى»(51)

و کل هذه الروایات تؤدى الى نتیجة واحدة، هى أن الامام علیه‏السلام اذا أراد أن یفعل شیئا فعله بمشیئة ربه و اذنه، و أنه یفعل هذه المعاجز البسیطة لینبه الغافلین، و لیهز السوط للظالمین، و لیوضح للناس أجمعین أنه قادر – بقدرة ربه – على فعل ما یرید، و لم یفکر یوما بملک الدنیا و سلطانها الزائل.

و نقل أبوجعفر بن جریر الطبرى عن الأعمش أنه قال:

«رأیت کاظم الغیظ علیه‏السلام عند الرشید و قد خضع له.

فقال له عیسى بن أبان: یا أمیرالمؤمنین، لم تخضع له؟!.

قال: رأیت من ورائه أفعى تضرب بأنیابها و تقول: أجبه بالطاعة و الا بلعتک!. ففزعت منها، فأجبت»(52)

نعم کان یرى الرشید و أسرته أکثر من ذلک من معاجز أهل هذا البیت المقدس صلوات الله علیهم، ولکنهم فراعنة کفرعون موسى الذى اتهمه بالسحر، و هو یعلم أنه لیس بسحر. ولجهلهم بالدین تمسکوا بسلطان ظالم قتل بعضهم أباه من أجله، و قتل غیره أخاه أو ابن عمه، و ما رعوا فیه لمؤمن کرامة و لا فضلا.

و اذا کنت تعجب مما ذکرناه، فاستمع الى ما هو أعجب. فعن أبى‏محمد، عبدالله – بن الفضل بن الربیع – عن الفضل، أنه قال:

«کنت أحجب الرشید، فأقبل على یوما غضبانا، و بیده سیف یقلبه. فقال لى: یا فضل، بقرابتى من رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم، لئن کان لم تأتنى یابن عمى الآن لأخذت الذى فیه عیناک.

فقلت: بمن أجیئک؟!.

فقال: بهذا الحجازى.

قلت: و أى حجازى؟!.

قال: موسى بن جعفر بن محمد بن على بن الحسین بن على بن أبى‏طالب علیه‏السلام.

قال الفضل: فخفت من الله عزوجل أن أجى‏ء به الیه. ثم فکرت بالنقمة فقلت له: أفعل.

فقال: ائتنى بسوطین و سمارین، و جلادین..

فأتیته بذلک، و مضیت الى منزل أبى‏ابراهیم، موسى بن جعفر. فأتیت الى خربة فیها کوخ من جرائد النخل، فاذا أنا بغلام أسود فقلت له: استأذن لى على مولاک، یرحمک الله.

فقال لى: لج، لیس له حاجب و لا بواب.

فولجت الیه، فاذا بغلام أسود بیده مقص یأخذ من جبینه و عرنین أنفه من کثرة سجوده. فقلت له: السلام علیک یابن رسول الله. أجب الرشید.

فقال: ما للرشید و ما لى؟! أما تشغله نعمته عنى؟!.

ثم وثب مسرعا و هو یقول: لولا أنى سمعت فى خبر فى جدى رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم أن طاعة السلطان للتقیة واجبة، اذا ما جئت.

فقلت له: استعد للعقوبة یا أباابراهیم، رحمک الله.

فقال علیه‏السلام: ألیس معى من یملک الدنیا و الآخرة؟!. و لن یقدر الیوم على سوء بى ان‏شاءالله تعالى.

قال الفضل بن ربیع: فرأیته و قد أدار یده یلوح بها رأسه ثلاث مرات.

فدخلت على الرشید، فاذا کأنه امرأة ثکلى، قائم حیران!. فلما رآنى قال لى: یا فضل.

قلت: لبیک.

فقال: جئتنى بابن عمى؟.

قلت: نعم.

قال: لا یکون أزعجته؟!.

فقلت: لا.

قال: لا یکون أعلمته أنى علیه غضبان، و أنى قد هیجت على نفسى ما لم أرده… ائذن له بالدخول.

فاذنت له. فلما رآه وثب الیه قائما، و عانقه و قال له: مرحبا بابن عمى و أخى و وارث نعمتى!. ثم أجلسه على فخذیه و قال له: ما الذى قطعک عن زیارتنا؟.

فقال: سعة مملکتک، و حبک للدنیا.

فقال: ائتونى بحقة الغالیة – أى بالطیب – فأتى بها. فعلقه بیده، ثم أمر أن یحمل بین یدیه خلع و بدرتا دنانیر. – أى صرتان -.

فقال موسى بن جعفر علیه‏السلام: لولا أنى أرى أن أزوج بها من عزاب بنى أبى‏طالب لئلا ینقطع نسله أبدا ما قبلتها.

ثم تولى علیه‏السلام، و هو یقول: الحمدلله رب العالمین.

فقال الفضل – للرشید -: أردت أن تعاقبه، فخلعت علیه و أکرمته؟!.

فقال لى: یا فضل، انک لما مضیت لتجیئنى به، رأیت أقواما قد أحدقوا بدارى، بأیدیهم حراب قد غرسوها فى أصل الدار، یقولون: ان آذى ابن رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم خسفنا به، و ان أحسن الیه انصرفنا عنه و ترکناه.

فتبعته فقلت له: ما الذى قلته حتى کفیت أمر الرشید؟!.

قال: دعاء جدى على بن أبى‏طالب علیه‏السلام. کان اذا دعا به ما برز الى عسکر الا هزمه، و لا الى فارس الا قهره، و هو دعاء کفایة البلاء.

فقلت: و ما هو؟.

قال: قل: اللهم بک أساور، و بک أطاول، و بک أحاور، و بک أصول، و بک أنتصر، و بک أموت، و بک أحیا، أسلمت نفسى الیک، و فوضت أمرى الیک، لا حول و لا قوة الا بالله العلى العظیم.

اللهم انک خلقتنى و رزقتنى، و سترتنى عن العباد بلطف ما خولتنى و أغنیتنى، و اذا هویت رددتنى، و اذا عثرت قومتنى و اذا مرضت شفیتنى، و اذا دعوت أجبتنى، یا سیدى ارض عنى فقد أرضیتنى»(53)

و هذه من آیاته التى آمن بها الخلیفة حال حدوثها، ولکنه کفر بها کما کفر بغیرها من قبل کما هى عادة أهل العناد الذین اذا رأوا آیة (وجحدوا بها و استیقنتها أنفسهم…)(54)

و من آیاته التى فجأ بها الناس یومئذ، و هو فى آخر سجن حل فیه، ما قاله أبوالأزهر، ناصح بن علیة البرجمى فى حدیث طویل:

«جمعنى مسجد بازاء دار السندى بن شاهک، و ابن‏السکیت. فتفاوضنا – أى تذاکرنا – فى العربیة، و معنا رجل لا نعرفه، فقال: یا هؤلاء، أنتم الى اقامة دینکم أحوج منکم الى اقامة ألسنتکم، و ساق الکلام الى امام الوقت، و قال: لیس بینکم و بینه غیر هذا الجدار.

قلنا: تعنى هذا المحبوس، موسى؟!.

قال: نعم.

قلنا: سترنا علیک، فقم من عندنا مخافة أن یراک أحد جلیسنا فنؤخذ بک.

قال: والله لا یفعلون ذلک أبدا!. والله ما قلت لکم الا بأمره، و انه لیرانا و یسمع کلامنا، ولو شاء أن یکون ثالثنا لکان.

قلنا: فقد شئنا، فادعه الینا.

فاذا قد أقبل رجل من باب المسجد داخلا، کادت لرؤیته العقول أن تذهل؟!. فعلمنا أنه موسى بن جعفر…

… ثم قال: أنا هذا الرجل، و ترکنا.

و خرجنا من المسجد مبادرین، فسمعنا وجیبا شدیدا. و اذا السندى بن شاهک یعدو داخلا الى المسجد معه جماعة. فقلنا: کان معنا رجل فدعانا الى کذا و کذا، و دخل هذا الرجل المصلى، و خرج ذلک الرجل و لم نره.

فأمر بنا فأمسکنا. ثم تقدم الى موسى و هو قائم فى المحراب، فأتاه من قبل وجهه، و نحن نسمع، فقال: یا ویحک، کم تخرج بسحرک هذا وحیلتک من وراء الأبواب و الأغلاق و الأقفال، و أردک!. فلو کنت هربت کان أحب الى من وقوفک هاهنا… أترید یا موسى أن یقتلنى الخلیفة.

قال: فقال موسى، و نحن والله نسمع کلامه: کیف أهرب، ولله فى

أیدیکم موقت لى یسوق الیها أقدارها، و کرامتى على أیدیکم… -فى کلام له.

قال: فأخذ السندى بیده و مشى، ثم قال للقوم: دعوا هذین و اخرجوا الى الطریق فامنعوا أحدا یمر من الناس حتى أتم أنا و هذا الى الدار»(55)

فیا رب (أم لهم أعین یبصرون بها أم لهم ءاذان یسمعون بها…)(56) و أین یضیع الفهم، و یغیب العلم و الرشد؟! (فانها لا تعمى الأبصار ولکن تعمى القلوب التى فى الصدور (46))(57)

قال محمد بن عباد المهلبى:

«لما حبس هارون الرشید موسى بن جعفر، و أظهر الدلائل و المعجزات و هو فى الحبس، دعا الرشید یحیى بن خالد البرمکى و سأله تدبیرا فى شأن موسى علیه‏السلام، فقال:

الذى أراه لک أن تمن علیه و تصل رحمه.

فقال الرشید: انطلق الیه، وأطلق عنه الحدید، و أبلغه عنى السلام، و قل له: یقول لک ابن‏عمک: انه قد سبق فیک منى یمین أن لا أخلیک حتى تقر لى بالاساءة، و تسألنى العفو عما سلف منک. و لیس علیک فى اقرارک عار، و لا فى مسألتک ایاى منقصة. و هذا یحیى و هو ثقتى و وزیرى، فله قدر ما أخرج من یمینى، و انصرف راشدا.

فقال علیه‏السلام: یا أباعلى، أنا میت، و انما بقى من أجلى أسبوع. فاکتم قولى، وائتنى یوم الجمعة، و صل أنت و أولیائى على فرادى. و انظر اذا سار

هذا الطاغیة الى الرقة و عاد الى العراق لا یراک و لا تراه، واحتل لنفسک فانى رأیت فى نجمک و نجم ولدک و نجمه أنه یاتى علیکم، فاحذروه!.

ثم قال له: یا أباعلى، أبلغه عنى: یقول موسى بن جعفر: رسولى یأتیک یوم الجمعة، و یخبرک بما یرى. و ستعلم غدا اذا جاثیتک بین یدى الله من الظالم و المعتدى على صاحبه!.

فلما أخبره بجوابه قال هارون: ان لم یدع النبوة بعد أیام فما أحسن حالنا!.

فلما کان یوم الجمعة توفى أبوابراهیم علیه‏السلام»(58)

و بوفاة الامام علیه‏السلام یوم الجمعة، کتب الله تعالى الخزى على وجه الخلیفة الذى سخر من قول الامام و قال: ان لم یدع النبوة بعد أیام فما أحسن حالنا!.

فان الامام علیه‏السلام قد أنبأ یحیى البرمکى بأن هذا السلطان الظالم سیفتک به و بأولاده، و حذره من ذلک، فلم یأخذ الحیطة لنفسه و لا لأولاده، فوقع هو و ایاهم فى الهلاک.

و الشى‏ء الهام الذى نرید ایضاحه، هو أن هارون الرشید کان یموه على الآخرین، و یریهم أنه یرید اطلاق سراح الامام فى الأسبوع الذى عزم فیه على سمه، و بذلک یصرف أفکارهم عن أنه یدبر المکیدة مع أعوانه لسم الامام و قتله. ولذلک نرى الامام صلوات الله علیه لم یجبه بأکثر من أن تهدده بمحاکمته بین یدى الله تعالى، و کشف له عن علمه بتدبیر الحیلة لقتله و هو یعلن أنه سیطلق سراحه، و بذلک ألقمه حجرا سد به فاه.

قال عبدالله بن ابراهیم الجعفرى:

«کتب یحیى بن عبدالله بن الحسن، الى موسى بن جعفر علیه‏السلام:

أما بعد، فأوصى نفسى بتقوى الله، و بها أوصیک. فانها وصیة الله فى الأولین، و وصیته فى الآخرین.

خبرنى من ورد على من أعوان الله على دینه و نشر طاعته، بما کان من تحننک من خذلانک، و قد شاورت فى الدعوة للرضا من آل محمد صلى الله علیه و اله و سلم، و قد احتجبتها و احتجبها أبوک من قبلک. – أى احتجبا المشورة -. و قدیما ادعیتم ما لیس لکم، و بسطتم آمالکم الى ما لم یعطکم الله، فاستهویتم و أضللتم؛ و أنا محذرک ما حذرک الله من نفسه.

فکتب الیه أبوالحسن، موسى بن جعفر علیه‏السلام:

من موسى بن أبى‏عبدالله: جعفر، و على، مشترکین فى التذلل الله و طاعته؛ الى یحیى بن عبدالله بن حسن.

أما بعد، فانى محذرک الله و نفسى، و أعلمک ألیم عذابه، و شدید عقابه، و تکامل نقماته!… و أوصیک و نفسى بتقوى الله، فانها زین الکلام و تثبیت النعم.

أتانى کتابک تذکر فیه أنى مدع، و أبى من قبل، و ما سمعت ذلک منى!. (ستکتب شهادتهم و یسئلون (19))(59)

لم یدع حرص الدنیا و مطالبها لأهلها مطلبا لآخرتهم، حتى یفسد علیهم مطلب آخرتهم فى دنیاهم.

و ذکرت أنى ثبطت الناس عنک لرغبتى فیما فى یدیک، و ما منعنى من

مدخلک الذى أنت فیه لو کنت راغبا، ضعف عن سنة، و لا قلة بصیرة بحجة. ولکن الله تبارک و تعالى خلق الناس أمشاجا و غرائب و غرائز.

فأخبرنى عن حرفین أسألک عنهما: ما العترف فى بدنک؟. و ما الصهلج فى الانسان؟. ثم اکتب الى بخبر ذلک.

و أنا متقدم الیک أحذرک معصیة الخلیفة، و أحثک على بره و طاعته، و أن تطلب لنفسک أمانا قبل أن تأخذک الأظفار، و یلزمک الخناق من کل مکان، فتروح الى النفس من کل مکان تجده حتى یمن الله علیک بمنه و فضله، ورقة الخلیفة أبقاه الله، فیؤمنک و یرحمک، و یحفظ فیک أرحام رسول الله، والسلام على من اتبع الهدى، (انا قد أوحى الینا أن العذاب على من کذب و تولى (48))(60)

قال الجعفرى: فبلغنى أن کتاب موسى بن جعفر علیه‏السلام، وقع فى یدى هارون (الرشید) فلما قرأه قال: الناس یحملونى على موسى بن جعفر، و هو برى‏ء مما یرمى به»(61)

فلم تأخذ البرى‏ء بغیر ذنب یا عنق البعیر الذى جلس على مقعد الخلافة لیقیم العدل بین الناس؟!.

و کیف یجوز لک أن تتهم بریئا، و تحبس بریئا، و تسم بریئا، و تقتل بریئا.

اذا وقفت و ایاه بین یدى الله، و جاثاک أمام الحکم العدل، فستبوء بالخسران فى ساعة لا ینفع فیها الندم لمن ندم و تاب.

أیام شقاء الامام فى ظل حکمک انتهت… بأن راح الى ربه شهیدا مظلوما، و لحق بآبائه الأبرار الأطهار… الى جنة الله و رضوانه.

و أیام سعادتک ولهوک و غفلتک قد انقضت… ورحت حکما ظلما قد تقمص غیر سرباله، و ورد على ربه یدا بید مع فراعنة العصور، و مع ابن‏ملجم و قتلة الحسن و الحسین و أبنائه علیهم‏السلام… و کنتم جبارین، و وقعتم بین یدى جبار السماوات و الأرض… الحاکم بالعدل…


1) الکافى م 1 ص 476.

2) الارشاد ص 279- 278 و اعلام الورى ص 297 -296 و حلیة الأبرار ج 2 ص 274 و کشف الغمة ج 3 ص 20-19 و الاحتجاج ج 2 ص 393 و هو فى مناقب آل أبى‏طالب ج 4 ص 320 باختصار.

3) الکامل لابن الأثیر ج 6 ص 54 و فى تاریخ الأمم و الملوک ج 11 ص 70 ذکر وفاته فقط، و هو فى مناقب آل أبى‏طالب ج 4 ص 320 باختصار، و فى تذکرة الخواص ص 314 بکامله، نقلا عن الزمخشرى و المدائنى. و هو فى حلیة الأبرار ج 2 ص 274- 273 و آخره فى کشف الغمة ج 3 ص 8 و ص 40 أورده فیما ذکره الخطیب البغدادى فى تاریخ بغداد نقلا عن أحمد بن اسماعیل.

4) المصدر نفسه.

5) سورة العشراء: 227.

6) فى رجال المامقانى ج 3 ص 290 نقل الوحید روایة الصدوق عنه مترضیا علیه، و هو دلیل على وثاقته.

7) سورة الأنفال: 72.

8) سورة الأنعام: 38.

9) سورة الأنعام: 84 و 85 و هذا النقاش موجود فى ینابیع المودة ج 3 ص 10.

10) سورة آل عمران: 61 و هذا النقاش و ما سبقه موجودان فى کشف الغمة ج 3 ص 42-41.

11) سورة الأنبیاء: 60.

12) الاحتجاج ج 2 من ص 387 الى ص 393.

13) حلیة الأبرار ج 2 ص 269 الى 272 فى حدیث طویل ترکنا آخره لما فیه من خزى یظهر فى تصرف هذا الخلیفة. و هو فى وفاة الامام موسى الکاظم ص 18 الى ص 22.

14) سورة الحجر: 21.

15) مناقب آل أبى‏طالب ج 4 ص 360 و هو فى حلیة الأبرار ج 2 ص 273 – 272.

16) الطومار: کتاب طویل یستعمله القدماء.

17) سورة مریم: 59.

18) سورة الأنعام: 84 و 85.

19) سورة آل عمران: 55.

20) سورة الانفال: 70.

21) سورة الانفال: 72.

22) الاختصاص من ص 54 الى ص 58 و أشار الى روایة تحف العقول من 298 الى 300 و الاختلاف اللفظى، و الى روایة المجلسى فى بحارالأنورا م 11 ص 268 و هو فى وفاة الامام موسى الکاظم من ص 9 الى ص 18.

23) سورة الشعراء: 89-88.

24) سورة الانعام: 84 و 85.

25) سورة آل عمران: 42.

26) سورة المجادلة: 52.

27) سورة الأعراف: 12 و سورة ص: 76.

28) سورة الکهف: 51-50.

29) سورة لقمان: 25.

30) تحت العقول ص 2.

31) سورة النساء: 86.

32) سورة البقرة: 86.

33) مناقب آل أبى‏طالب ج 4 ص 308.

34) سورة النمل: 36.

35) مناقب آل أبى‏طالب ج 4 ص 298-297 و هو فى الأنوار البهیة ص 363 باختصار.

36) سورة النساء: 137.

37) سورة الأسرار: 47.

38) سورة الذاریات: 53.

39) سورة التوبة: 32.

40) سورة الحج: 25.

41) سورة الأنبیاء: 47.

42) سورة المائدة: 45.

43) مناقب آل أبى‏طالب ج 4 ص 313-312.

44) مناقب آل أبى‏طالب ج 4 ص 301-300 و هو فى حلیة الأبرار ج 2 من ص 267 الى ص 269 بتفصیل أوفى.

45) حلیة الأبرار ج 2 ص 284.

46) الاختصاص ص 198.

47) مناقب آل أبى‏طالب ج 4 ص 316 و هو فى اعلام الورى ص 297 باختلاف یسیر فى اللفظ، و هو فى حلیة الأبرار ج 2 ص 275- 274.

48) مناقب آل أبى‏طالب ج 4 ص 306-305 و وفاة الامام موسى الکاظم من ص 23 الى ص 25.

49) المصدر السابق.

50) حلیة الأبرار ج 4 ص 267- 266 و وفاة الامام موسى الکاظم ص 27.

51) مروج الذهب ج 3 ص 347-346 و فى بنابیع المودة ج 3 ص 11 ذکر أن هارون الرشید رأى علیا رضى الله عنه فى المنام و معه حربة و هو یقول: خلص الکاظم و الا قتلتک بهذه الحربة. و هو فى ینابیع المودة ج 3 ص 32 و ص 37 و أن الرشید رأى فى منامه الامام الحسن المجتبى علیه‏السلام. و هو أیضا فى حلیة الأبرار ج 2 ص 264- 263 و فى الاختصاص ص 60 – 59 و قال: رواه الصدوق فى «العیون» و المجلسى فى بحارالأنوار م 11 ص 399.

52) حلیة الأبرار ج 2 ص 260.

53) حلیة الأبرار ج 2 من ص 261 الى ص 264.

54) سورة النمل: 14.

55) مناقب آل أبى‏طالب ج 4 ص 297-296.

56) سورة الأعراف: 195.

57) سورة الحج: 46.

58) مناقب آل أبى‏طالب ج 4 ص 290.

59) سورة الزخرف: 19.

60) سورة طه: 48.

61) الکافى م 1 ص 267-266.