جستجو
این کادر جستجو را ببندید.

علمه الموهوب و عظمته

زمان مطالعه: 20 دقیقه

الأئمة من أهل بیت النبوة علیهم‏السلام، علماء، حکماء، فقهاء قد زقوا العلم زقا. فلا تجد عند کبیرهم ما لا تجده عند صغیرهم، لأنهم خلقوا معلمین مفهمین، و علمهم موهوب غیر مکسوب؛ و هو من جملة عطایا الله السنیة لهم. و لن تستریح الى فهمهم على بعض حقیقتهم، الا اذا أیقنت بأنهم منتجبون، مختارون، و ممیزون عن سائر العالمین؛ لأنهم معدون لأمر الله تبارک و تعالى الذى انتدبهم سفراء فى أرضه، و أمناء على وحیه، و خلفاء على خلقه، یحملون أعباء خلافته، و یتصرفون عن أمره و نهیه. و قد وهبهم سبحانه علم ما کان و علم ما یکون حتى لا یعیوا بجواب، و لا یترددوا فى فتوى. ثم أعطاهم آلة السفارة و امامة الناس کاملة، ورفدهم بملائکة مؤیدین و مسددین یعملون بین أیدیهم، و یفعلون ما یؤمرون. ولذلک کان على الباحث عن کفاءاتهم العلمیة، و طاقاتهم الفکریة، و مبلغ قدراتهم فى مختلف الشؤون، کان علیه أن یقف عند نقطة هامة تریح فکره و تختصر بحثه، و هى أن علمهم لدنى من علم الله عزوجل، و أنهم یعملون فى عین ربهم الذى یرعاهم فى سائر تقلباتهم أکثر مما ترعى الدولة الکبرى سفیرها

و مندوبها و هم – أیضا – ذوو حصانة ربانیة لا یرفعها عنهم الا مانحها لهم.

و لذا لا تجد لهم ذاما عبر التاریخ، و لا تقف على قائل منهم کلمة سوء حتى ممن لا یتولاهم کأئمة و خلفاء لرسول الله صلى الله علیه و اله و سلم.

و نحن حین نتکلم عن علمهم الموهوب، نطلق علیهم اسمه دون أن نتجرأ على الخوض فى التفاصیل، فانه من کلمات الله عزوجل التى لو کان البحر مدادا لها لنفذ البحر قبل أن تنفد. فقد منحهم سبحانه من علمه بقدر ما یحتاجون فى حیاتهم، و أطلعهم على کثیر من خفایا الکون و أسراره، و جعلهم عارفین بکثیر من أمور السماء و أهلها و الأرض و ما فیها، و قد برهنت على ذلک سیرتهم مع معاصریهم من مؤالفین و مخالفین…

أجل، اننا حین نتکلم عن علم الامام، نذکر بعض الأمثلة التى لا تصدر عن سائر الناس، و لا عن الأفذاذ من البشر، فنقف عاجزین عن معرفة ماهیة علمه الالهى الذى لا حدود له، و لا نعرف له تحدیدا، لأنه صادر عمن هو بکل شى‏ء محیط…

و الى قارئى العزیز بعض تلک الأمثلة:

«فقد قیل ان رجلا افتض جاریة مقصرا – اى مدرکة – لم تطمث – یعنى لم تر العادة الطبیعیة للنساء- فسال الدم نحوا من عشرة أیام. فاختلف القوابل أنه دم الحیض أم دم العذرة، و سألوا أباحنیفة عن ذلک فقال: هذا شى‏ء قد أشکل فلتتوضأ و لتصل، و لیمسک عنها زوجها حتى ترى البیاض.

فسأل خلف بن حماد موسى بن جعفر، فقال علیه‏السلام:

تستدخل القطنة ثم تترکها ملیا. ثم تخرجها اخراجا رفیقا:

فان کان الدم مطوقا فى القطنة فهو من العذرة.

و ان کان مستنقعا فى القطنة فهو من الحیض.

فبکى خلف و قال: جعلت فداک، من یحسن هذا غیرک؟!.

قال: فرفع یده الى السماء و قال: انى والله ما أخبرک الا عن رسول الله، عن جبرائیل، عن الله تعالى»(1)

فما هو اعتراض من یحاول رد هذا السند الربانى، و هذه السلسلة الذهبیة: عن رسول الله، عن جبرائیل، عن الله؟!!

و هل یخطى‏ء من یرقى بهذا الاسناد؟!!

و هل تطرح روایته و یرد علیها؟!!

و ماذا تقول بفتوى خریج جامعة السماء، یا خریج فقهاء الأرض؟.

و من علم هذا الحجازى الذى أودع بطون السجون فى عهد الظلم، و لو حق و هو فى العشرین من عمره فعاش حیاة صعبة مراقبة فى اقامات جبریة، قضى أکثرها فى العبادة و الصوم لیلا و نهارا؟!.

و من أین له هذا العلم التشریحى، و هذا التمییز الدقیق بین دم العذرة الممزقة و الباقیة أطرافها بشکل دائرة، و بین دم الحیض الذى یتدفق بسعة الأنبوب؟.

و کیف اهتدى الى هذا الجواب الذى لا تعرفه القابلة، و لا یعرفه أمهر الأطباء و المشرحون؟.

هذا من عطاء ربه سبحانه الذى (علم الانسان ما لم یعلم (5))(2) و هو من جملة مواهبه عزوعلا، و من أقل عطاءاته لأهل بیت النبى الذى أخرج أئمة

الحق و هداة الخلق. و أن هذه المسألة لمن أبسط ما عندهم من علم، ولو أنت طالعت شیئا من علمهم فى المواضیع النسائیة فقط، و فى کتب الأخبار الفقهیة، لرأیت عجبا، و لو قفت وقفة اکبار و اجلال لعلمهم الذى لا ینفد، لأنک ستجد نفسک أمام طبیب نسائى قضى حیاته فى الدرس و التشریح، و کأنه لم یشتغل فى حیاته الا فى هذا الموضوع. و هم هکذا فى مختلف العلوم و الفنون، و فى سائر فتاوى الدین فى حلال الله تعالى و حرامه، بحیث تقطع فتاواهم کل کلام و جدل و خصام.

قال داود بن قبیصة:

«سمعت الرضا یقول: سئل أبى علیه‏السلام: هل منع الله عما أمر به، و هل نهى عما أراد، و هل أعان على ما لم یرد؟!.

فقال علیه‏السلام: أما ما سألت: هل منع الله عما أمر به؟. فلا یجوز ذلک. و لو جاز ذلک لکان قد منع ابلیس عن السجود لآدم!. و لو منع ابلیس لعذره و لم یلعنه.

و أما ما سألت: هل نهى عما أراد؟. فلا یجوز ذلک. و لو جاز ذلک لکان حیث نهى آدم عن أکل الشجرة، أراد منه أکلها. و لو أراد منه أکلها لما نادى علیه صبیان الکتاتیب: (و عصى ءادم ربه فغوى (121))(3) والله تعالى لا یجوز علیه أن یأمر بشى‏ء و یرید غیره.

و أما ما سألت عنه من قولک: هل أعان على ما لم یرد؟. و لا یجوز ذلک. و جل الله تعالى عن أن یعین على قتل الانبیاء و تکذیبهم، و قتل الحسین علیه‏السلام، و الفضلاء من ولده. و کیف یعین على ما لم یرد، و قد أعد

جهنم لمخالفیه و لعنهم على تکذیبهم لطاعته، و ارتکابهم لمخالفته؟!. و لو جاز أن یعین على ما لم یرد، لکان أعان فرعون على کفره و ادعائه أنه رب العالمین!. أفترى أراد الله من فرعون أن یدعى الربوبیة؟!.

یستتاب قائل هذا القول، فان تاب من کذبه على الله، و الا ضربت عنقه»(4)

فما أروع هذه الأمثلة الحسیة التى ضربها الامام علیه‏السلام لسائله!.

فغیر الامام یقصر عن التمثیل بها کما لا یخفى على القارى‏ء الکریم…

ولکن، ما أقل السامعین من العالمین.

«قال هشام بن سالم: کنا بالمدینة بعد وفاء أبى‏عبدالله علیه‏السلام، أنا و محمد بن النعمان، و الناس یجتمعون على عبدالله بن جعفر على أنه صاحب الأمر بعد أبیه. فدخلنا و الناس عنده فسألناه عن الزکاة فى کم تجب؟.

فقال: فى مائتى درهم خمسة دراهم.

قلنا: ففى مائة؟.

قال: درهمان و نصف.

قلنا: والله ما یقول المرجئة هذا!.

قال: والله ما أدرى ما یقول المرجئة.

فخرجنا ضلالا لا ندرى الى أین نتوجه أنا و أبوجعفر الأحول، فقعدنا فى بعض أزقة المدینة باکین لا ندرى الى أین نتوجه و الى من نقصد. نقول: الى المرجئة؟. الى المعتزلة؟. الى الزیدیة؟.

فنحن کذلک اذ رأیت رجلا شیخا لا أعرفه یومى‏ء الى بیده. فخفت أن یکون عینا من عیون أبى‏جعفر المنصور، و ذلک أنه کان له فى المدینة جواسیس على من یجتمع بعد جعفر الصادق علیه‏السلام الیه الناس، فیؤخذ فیضرب عنقه.

فخفت أن یکون منهم، فقلت للأحول: تنح فانى خائف على نفسى و علیک و انما یریدنى، لیس یریدک. فتنح حتى لا تهلک فتعین على نفسک.

فتنحى عنى بعیدا، و تبعت الشیخ؛ و ذلک أنى ظننت أنى لا أقدر على التخلص منه. فما زلت أتبعه و قد عزمت على الموت، حتى ورد بن على باب أبى‏الحسن، موسى علیه‏السلام. ثم خلانى و مضى. فاذا خادم بالباب فقال لى: أدخل رحمک الله.

فدخلت، فاذا أبوالحسن، موسى علیه‏السلام، فقال لى ابتداء منه: الى الى، لا الى المرجئة، و لا الى القدریة، و لا الى المعتزلة، و لا الى الزیدیة.

قلت: جعلت فداک، مضى أبوک؟.

قال: نعم.

قلت: مضى موتا؟.

قال: نعم.

قلت: فمن لنا بعده؟.

قال: ان‏شاءالله أن یهدیک هداک.

قلت: جعلت فداک، ان أخاک عبدالله یزعم أنه الامام من بعد أبیه.

فقال: عبدالله یرید أن لا یعبد الله.

قلت: جعلت فداک، فمن لنا من بعده؟.

فقال: ان‏شاءالله أن یهدیک هداک.

قلت: جعلت فداک، فأنت هو؟.

قال: لا أقول ذلک.

قلت فى نفسى: لم أصب طریق المسألة. ثم قلت له: جعلت فداک، أعلیک امام؟.

قال: لا.

فدخلنى شى‏ء لا یعلمه الا الله تعالى اعظاما له وهیبة. ثم قلت له: جعلت فداک، أسألک عما کنت أسأل أباک؟.

قال: سئل تخبر، و لا تذع، فان أذعت فهو الذبح.

فسألته، فاذا هو بحر لا ینزف.

قلت: جعلت فداک، فشیعة أبیک ضلال، فألقى الیهم هذا الأمر و أدعوهم الیک فقد أخذت على الکتمان؟!.

قال: من آنست منه رشدا فألق الیه و خذ علیه الکتمان، فان أذاع فهو الذبح – و أشار بیده الى حلقه -.

فخرجت من عنده، فلقیت أباجعفر الأحول، فقال لى: ما وراءک؟.

قلت: الهدى؛ و حدثته القصة.

ثم لقینا زرارة و أبابصیر، فدخلا علیه، وسمعا کلامه، وسألاه، و قطعا علیه.

ثم لقینا الناس أفواجا؛ فکل من دخل علیه قطع علیه الا طائفة عمار الساباطى. و بقى عبدالله لا یدخل علیه من الناس الا القلیل»(5)

و أول ما یطالعنا فى هذه القصة قول عبدالله بن جعفر: والله ما أدرى ما یقول المرجئة. مقسما على جهله بحقیقة الامامة التى لیس فى قاموسها کلمة: لا أدرى، لأن الامام لا یجهل شیئا مطلقا باذن ربه عزوجل فعلمه مخلوق معه..

ثم یطالعنا بعد ذلک بقلیل قول أخیه الامام موسى بن جعفر علیه‏السلام ابتداء و دون أن یعلمه أحد عما قاله أخوه لهشام بن سالم: الى الى، لا الى المرجئة، و لا الى القدریة، و لا الى المعتزلة، و لا الى الزیدیة!. مرددا قول هشام الذى لم یسمعه منه سوى رفیقه الأحول، و قد قاله بتمام السریة و الخوف…

فکیف علم الامام علیه‏السلام ما قاله هشام لرفیقه؟.

و کیف استطاع أن یکرر عبارته بلفظها، و بنفس الترتیب؟!.

و کیف علم بمکان وجوده، فأرسل الشیخ لیدعوه الیه؟!. و کیف؟ و کیف؟ و کیف؟!.

لا تسأل بکیف؟ و لا بلماذا؟ و لا تتعب نفسک. فعلى العاقل أن یذعن لمشیئة الله و حسن اختیاره و منتهى حکمته، و أن یؤمن بقدرته، و یسلم بأنه سبحانه کما یجعل لنا عینین، و لسانا و شفتین وو… فکذلک یجعل للامام الذى یختاره علما ینقشه له فى ذاکرته، فلا یزول و لا ینمحى…

و عن على بن راشد، و غیره، فى خبر طویل، قال:

«انه اجتمعت العصابة الشیعیة بنیسابور، واختاروا محمد بن على النیسابورى فدفعوا الیه ثلاثین ألف دینار، و خمسین ألف درهم، و ألفى شقة من الثیاب؛ و أتت شطیطة بدرهم صحیح و شقة خام من غزل یدها تساوى أربعة دراهم فقالت: ان الله لا یستحى من الحق. (أى أنها لا تخجل بدفع الحق الشرعى و لو کان قلیلا).

قال: فثنیت درهمها.

و جاؤوا بجزء فیه مسائل مل‏ء سبعین ورقة، فى کل ورقة مسألة. و باقى الورق بیاض لیکتب الجواب تحتها؛ و قد حزمت کل ورقتین بثلاث حزم. (أى شدت فى وسطها بخیط – و ختم علیها بثلاثة خواتیم، على کل جزام خاتم. و قالوا: ادفع الى الامام لیلة – لیلا- و خذ منه فى غد. فان وجدت الجزء الصحیح الخواتیم، فاکسر منها خمسة و انظر هل أجاب عن المسائل، و ان لم تنکسر الخواتیم فهو الامام المستحق للمال فادفع الیه، و الا فرد الینا أموالنا.

فدخل على الأفطح، عبدالله بن جعفر، و جربه فخرج عنه قائلا: رب اهدنى الى سواء الصراط.

قال: بینما أنا واقف اذا أنا بغلام یقول: أجب من ترید.

فأتى بى دار موسى بن جعفر.

فلما رآنى قال: لم تقنط یا أباجعفر، و لم تفزع الى الیهود و النصارى، فأنا حجة الله و ولیه.

ألم یعرفک أبوحمزة على باب مسجد جدى؟. و قد أجبتک على ما فى الجزء من المسائل بجمیع ما تحتاج الیه منذ أمس، فجئنى به – أى بالمال – و بدرهم شطیطة الذى وزنه درهم و دانقان، الذى فى الکیس الذى فیه

أربعمائة درهم للوازوازى – هو اسم رجل – و الشقة التى فى رزمة الأخوین البلخیین.

قال: فطار عقلى من مقاله!. و أتیته بما أمرنى، و وضعت ذلک قبله.

فأخذ درهم شطیطة و ازارها، ثم استقبلنى و قال: ان الله لا یستحى من الحق؛ یا أباجعفر، أبلغ شطیطة سلامى، و أعطها هذه الصرة – و کانت أربعین درهما. ثم قال: و أهدیت لک شقة من أکفانى من قطن قریتنا صیداء، قریة فاطمة علیهاالسلام، و غزل أختى حلیمة ابنة أبى‏عبدالله جعفر بن محمد الصادق علیه‏السلام، ثم قال: و قل لها ستعیشین تسعة عشر یوما من وصول أبى‏جعفر و وصول الشقة و الدراهم. فأنفقى على نفسک منها ستة عشر درهما، واجعلى أربعة و عشرین صدقة منک و ما یلزم عنک، و أنا أتولى الصلاة علیک.

فاذا رأیتنى یا أباجعفر، فاکتم على فانه أبقى على نفسک.

ثم قال: واردد الأموال الى أصحابها، و افکک هذه الخواتیم، عن الجزء، و انظر هل أجبناک عن المسائل أم لا، من قبل أن تجیئنا بالجزء.

فوجدت الخواتیم صحیحة، ففتحت منها واحدا من وسطها، فوجدت فیه مکتوبا: ما یقول العالم علیه‏السلام فى رجل قال: نذرت لله لأعتقن کل مملوک کان فى رقى قدیما، و کان له جماعة من العبید؟.

الجواب بخطه: لیعتقن من کان فى رقه من قبل ستة أشهر؛ و الدلیل على صحة ذلک قوله تعالى: (والقمر قدرناه منازل…)(6) الآیة، و الحدیث: من لیس له أقل من ستة أشهر…

و فککت الختم الثانى، فوجدت ما تحته: ما یقول العالم فى رجل قال: والله لأتصدقن بمال کثیر. فبما یتصدق؟.

الجواب تحته بخطه: ان کان الذى حلف من أرباب شیاه – غنم – فلیتصدق بأربع و ثمانین شاة، و ان کان من أصحاب النعم فلیتصدق بأربعة و ثمانین بعیرا، و ان کان من أرباب الدرهم، فلیتصدق بأربعة و ثمانین درهما. والدلیل علیه قوله تعالى: (لقد نصرکم الله فى مواطن کثیرة)(7) فعددت مواطن رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم قبل نزول تلک الآیة فکانت أربعة و ثمانین موطنا.

فکسرت الختم الثالث فوجدت تحته مکتوبا: ما یقول العالم فى رجل نبش قبر میت، و قطع رأس المیت، و أخذ الکفن؟.

الجواب بخطه: یقطع السارق لأخذ الکفن من وراء الجزر، و یلزم مائة دینار لقطع رأس المیت، لأنا جعلناه بمنزلة الجنین فى بطن أمه قبل أن ینفخ فیه الروح، فجعلنا فى النطفة عشرین دینارا… (المسألة الى آخرها).

و لما وافى خراسان وجد الذین رد علیهم أموالهم ارتدوا الى الفطیحة، و شطیطة على الحق، فبلغها سلامه، و أعطاها صرته و شقته، فعاشت کما قال علیه‏السلام.فلما توفیت شطیطة جاء الامام على بعیر له. فلما فرغ من تجهیزها رکب بعیره وانثنى نحو البریة و قال: عرف أصحابک و أقرئهم منى السلام، و قل لهم: انى و من یجرى مجراى من الأئمة علیهم‏السلام لا بد لنا من حضور جنائزکم فى أى بلد کنتم. فاتقوا الله فى أنفسکم».(8)

و قد سمع القارى‏ء الکریم أن هذه الفرقة من الشیعة قد اجتمعت بنیسابور، أى على بعد شاسع و مسافة طویلة من مرکز اقامة الامام علیه‏السلام.

فمن أین سمع هذا الامام العظیم قول المرأة المؤمنة، شطیطة حین قالت: ان الله لا یستحى من الحق؟!. حیث بعثت بدرهم واحد و قطعة قماش متواضعة، فقد استقبل الامام الرسول بأن طلب منه درهمها و ازارها – أى هدیتها البسیطة من الحق الشرعى – ثم قال: ان الله لا یستحى من الحق…

هذه واحدة، و الثانیة أنه من دله على المسائل المکتوبة، و من أوصلها الیه فأجاب علیها، ثم ردها الى طومار حاملها دون أن یشعر أحد بذلک؟!.

و کیف لم تنکسر الخواتیم؟!.

و الثالثة أنه من دله على مکان درهم شطیطة و شقة القماش التى بعثت بها الیه؟. و من عرفه أن شطیطة ستعیش تسعة عشر یوما بعد عودته من السفر؟.

و کیف قسم الدراهم التى بعث بها الیها، و علم أنها ستصرف منها ستة عشر درهما، و ستبقى أربعة و عشرین صدقة و بقیة لوازم، ثم تکفل بأن یصلى علیها یوم وفاتها. و لم یخطى‏ء فى التوقیت بالدقائق، بل کان حاضرا حین حمل جنازتها و فى الوقت المناسب للصلاة علیها؟!.

و الأعجب من الثلاث التى ذکرنا، هو أنه علیه‏السلام قد أمره برد الاموال الى أصحابها، رافضا قبولها، لأنه علم – مسبقا – أن اصحابها قد رجعوا الى الفطحیة – امامة عبدالله بن جعفر – و ارتدوا عن القول بامامته صلوات الله علیه.

ثم انه علیه‏السلام، ختم معاجزه هذه بأن حضر دفن شطیطة المرأة

المسکینة التى هى فى الشرق الأقصى و هو فى الشرق الأوسط، و على بعیر طوى المسافات باذن الله طیا، ثم أوصى موالیه بتقوى الله و بالالتفات الى سلامة أنفسهم فى الدنیا و الآخرة.

و من أعاد قراءة الوقائع، و أعادها و أعادها أکثر من مرة، یخرج منها مطمئنا الى عقیدة راسخة تزیده معرفة بأئمة أهل البیت علیهم‏السلام.

فى حدیث طویل(9) لهشام بن الحکم مع بریهة کبیر النصارى، أنهما بعد جدال طویل ارتحلا حتى أتیا المدینة، و المرأة معهما، یریدان أباعبدالله،- الصادق – علیه‏السلام، فلقیا موسى بن جعفر علیه‏السلام، فحکى له هشام الحکایة؛ فلما فرغ قال له موسى بن جعفر علیه‏السلام:

یا بریهة، کیف علمک بکتابک؟.

قال: أنا به عالم.

قال: کیف ثقتک بتأویله؟.

قال: ما أوثقنى بعلمى فیه.

فابتدأ موسى بن جعفر علیه‏السلام یقرأ الانجیل.

قال بریهة: و المسیح، لقد کان یقرأ هکذا.. و ما قرأ هذه القراءة الا المسیح!.

ثم قال: ایاک کنت أطلب منذ خمسین سنة، أو مثلک.

فآمن و حسن ایمانه، و آمنت المرأة و حسن ایمانها.

فدخل هشام و بریهة و المرأة على أبى‏عبدالله علیه‏السلام. و حکى هشام الحکایة و الکلام الذى جرى بین موسى علیه‏السلام و بریهة.

فقال أبوعبدالله علیه‏السلام: (ذریة بعضها من بعض)(10)

فقال بریهة: جعلت فداک، أنى لکم التوراة و الانجیل، و کتب الأنبیاء؟.

قال: هى عندنا وراثة من عندهم، نقرأها کما قرأوها، و نقولها کما قالوها. ان الله لا یجعل حجة فى أرضه یسأل عن شى‏ء، فیقول: لا أدرى.

فلزم بریهة أباعبدالله علیه‏السلام حتى مات أبوعبدالله، ثم لزم موسى بن جعفر علیه‏السلام حتى مات فى حیاته، فغسله بیده، و کفنه بیده، و لحده بیده، و قال: هذا حوارى من حواریى المسیح یعرف حق الله علیه. فتمنى أکثر أصحابه أن یکونوا مثله».(11)

و مثل هذا الحدیث، نذکر للقارى‏ء الکریم حدیثا آخر مفصلا هو هذا:

قال یعقوب بن جعفر بن ابراهیم:

«کنت عند أبى‏الحسن موسى علیه‏السلام، اذ أتاه رجل نصرانى و نحن معه بالعریض – واد فى المدینة -.

فقال له النصرانى: أتیتک من بلد بعید و سفر شاق، وسألت ربى منذ ثلاثین سنة أن یرشدنى الى خیر الأدیان، و الى خیر العباد و أعلمهم.

و أتانى آت فى النوم، فوصف لى رجلا بعلیا دمشق. فانطلقت حتى أتیته فکلمته، فقال: أنا أعلم أهل دینى، و غیرى أعلم منى.

قلت: أرشدنى الى من هو أعلم منک، فانى لا أستعظم السفر، و لا

تبعد على الشقة. و لقد قرأت الانجیل، و مزامیر داود، و قرأت أربعة أسفار من التوراة، و قرأت ظاهر القرآن حتى استوعبته کله.

فقال لى العالم: ان کنت ترید علم النصرانیة، فأنا أعلم العرب و العجم بها، و ان کنت ترید علم الیهود فباطى بن شرحبیل السامرى أعلم الناس بها الیوم، و ان کنت ترید علم الاسلام، و علم التوراة، و علم الانجیل، و علم الزبور، و کتاب هود، و کل ما أنزل على نبى من الأنبیاء، فى دهرک و دهر غیرک، و ما أنزل من السماء من خبر فعلمه أحد أو لم یعلم به أحد، فیه تبیان لکل شى‏ء و شفاء للعالمین، و روح لمن استروح الیه، و بصیرة لمن أراد الله به خیرا، و أنس الى الحق، فأرشدک الیه فأته و لو مشیا على رجلیک، فان لم تقدر فحبوا على رکبتیک، فان لم تقدر فزحفا على استک، فان لم تقدر فعلى وجهک!.

فقلت: لا، بل أقدر على المسیر فى البدن و المال.

قال: فانطلق من فورک حتى تأتى یثرب.

فقلت: لا أعرف یثرب.

قال: فانطلق حتى تأتى مدینة النبى صلى الله علیه و اله و سلم، الذى بعث فى العرب؛ و هو النبى العربى الهاشمى. فاذا دخلتها فسل عن بنى غنم بن مالک بن النجار. و هو عند باب مسجدها. و أظهر بزة – هیئة النصرانیة و حلیتها، فان و الیها یتشدد علیهم، و الخلیفة أشد. ثم تسأل عن بنى عمرو بن مبذول، و هو ببقیع الزبیر، ثم تسأل عن موسى بن جعفر و أین منزله، و أین هو، مسافر أم حاضر. فان کان مسافرا فالحقه فان سفره أقرب مما ضربت الیه، ثم أعلمه أن مطران علیا الغوطة – غوطة دمشق – هو الذى أرشدنى الیک، و هو یقرئک السلام کثیرا و یقول لک: انى لأکثر مناجاة ربى أن یجعل اسلامى على یدیک.

فقص هذه القصة و هو قائم معتمد على عصاه، ثم قال:

ان أذنت لى یا سیدى کفرت لک – أى وضعت یدى على صدرى خضوعا – و جلست.

فقال: آذن لک أن تجلس، و لا آذن لک أن تکفر.

فجلس ثم ألقى عنه برنسه، ثم قال: جعلت فداک، تأذن لى فى الکلام.

قال: نعم، ما جئت الا له.

فقال له النصرانى: اردد على صاحبى السلام – أى على مطران دمشق – أو ما ترد السلام؟.

فقال أبوالحسن علیه‏السلام: على صاحبک ان هداه الله. فأما التسلیم، فذاک اذا صار فى دیننا.

فقال النصرانى: انى أسألک، أصلحک الله.

قال: سل.

قال: أخبرنى عن کتاب الله تعالى، الذى أنزل على محمد و نطق به، ثم وصفه بما وصفه به.

فقال: (حم (1) و الکتاب المبین (2) انا أنزلناه فى لیلة مبارکة انا کنا منذرین (3) فیها یفرق کل أمر حکیم (4))(12)

قال: ما تفسیرها فى الباطن؟.

فقال: أما (حم (1)) فهو محمد صلى الله علیه و اله و سلم، و هو فى کتاب هود الذى

أنزل علیه، و هو منقوص الحروف. و أما (و الکتاب المبین (2)) فهو أمیرالمؤمنین على علیه‏السلام. و أما (لیلة) ففاطمة. و أما قوله: (فیها یفرق کل أمر حکیم (4)) یقول: یخرج منها خیر کثیر: فرجل حکیم، و رجل حکیم، و رجل حکیم.

فقال الرجل: صف لى الأول و الآخر من هؤلاء الرجال.

فقال: ان الصفات تشتبه، ولکن الثالث من القوم أصف لک ما یخرج من نسله. و انه عندکم لفى الکتب التى نزلت علیکم ان لم تغیروا و لم تحرفوا و تکفروا؛ و قدیما ما فعلتم.

قال له النصرانى: انى لا أستر عنک ما علمت و لا أکذبک؛ و أنت تعلم ما أقول فى صدق ما أقول و کذبه. والله قد أعطاک من فضله، و قسم علیک من نعمه ما لا یخطره الخاطرون، و لا یستره الساترون، و لا یکذب فیه من کذب. فقولى فى ذلک: الحق فیما ذکرت، فهو کما ذکرت.

فقال له أبوابراهیم علیه‏السلام: أعجلک خبرا لا یعرفه الا قلیل ممن قرأ الکتب:

أخبرنى ما اسم أم مریم؟. و أى یوم نفخت فیه مریم؟. ولکم ساعة من النهار؟فقال النصرانى: لا أدرى.

فقال أبوابراهیم علیه‏السلام: أما أم مریم فاسمها مرتا، و هى وهیبة بالعربیة، و أما الیوم الذین حملت فیه مریم، فهو یوم الجمعة للزوال، و هو الیوم الذى هبط فیه الروح الأمین. و لیس للمسلمین عید کان أولى منه. عظمه الله تبارک و تعالى، و عظمه محمد صلى الله علیه و اله و سلم، فأمر أن یجعله عیدا، فهو یوم الجمعة. و أما الیوم الذى ولدت فیه مریم، فهو یوم الثلاثاء لأربع

ساعات و نصف من النهار. و النهر الذى ولدت علیه مریم عیسى علیه‏السلام، هل تعرفه؟.

قال: لا.

قال: هو الفرات، و علیه شجر النخل و الکرم، و لیس یساوى بالفرات شى‏ء للکروم و النخیل.

و أما الیوم الذى حجبت فیه لسانها، و نادى قیدوس ولده و أشیاعه فأعانوه و أخرجوا آل‏عمران لینظروا الى مریم، فقالوا لها ما قص الله علیک فى کتابه، و علینا فى کتابه، فهل فهمته؟.

قال: نعم: و قرأته الیوم الأحدث.

قال: اذن، لا تقوم من مجلسک حتى یهدیک الله.

قال النصرانى: ما کان اسم أمى بالسریانیة، و العربیة؟.

فقال: کان اسم أمک بالسریانیة عنقالیة، و عنقورة کان اسم جدتک لأبیک، و أما اسم أمک بالعربیة فهو میة – أى مى – و أما اسم أبیک فعبد المسیح، و هو عبدالله بالعربیة، و لیس للمسیح عبد.

قال: صدقت و بررت، فما کان اسم جدى؟

قال: کان اسم جدک جبرئیل، و هو عبدالرحمان. سمیته فى مجلسى هذا.

قال: أما انه کان مسلما.

قال أبوابراهیم علیه‏السلام: نعم، و قتل شهیدا. دخلت علیه أجناد و قتلوه فى منزله غیلة، و الأجناد من أهل الشام.

قال: فما کان اسمى قبل کنیتى؟.

قال: کان اسمک عبد الصلیب.

قال: فما تسمینى؟.

قال: اسمک عبدالله.

قال: فانى آمنت بالله العظیم، و شهدت أن لا اله الا الله وحده لا شریک له، فردا صمدا، لیس کما تصفه النصارى، و لیس کما تصفه الیهود، و لا جنس من اجناس الشرک. و أشهد أن محمدا عبده و رسوله، أرسله بالحق، و أبان به لأهله، وعمى المبطلون. و أنه کان رسول الله الى الناس کافة، الى الأحمر و الأسود، کل فیه مشترک. فأبصر من أبصر، و اهتدى من اهتدى، و عمى المبطلون، و ضل عنهم ما کانوا یدعون. و أشهد أن ولیه نطق بحکمته، و أن من کان قبله من الأنبیاء نطقوا بالحکمة البالغة، و توازروا على الطاعة لله، و فارقوا الباطل و أهله، و الرجس و أهله، و هجروا سبیل الضلالة، و نصرهم الله بالطاعة له، و عصمهم من المعصیة له، فهم لله أولیاء، و للدین أنصار، یحثون على الخیر و یأمرون به؛ آمنت بالصغیر منهم و الکبیر، و من ذکرت منهم و من لم أذکر، و آمنت بالله تبارک و تعالى رب العالمین.

ثم قطع زناره، و قطع صلیبا کان فى عنقه من ذهب، ثم قال: مرنى حتى أضع صدقتى حیث تأمرنى.

فقال: هاهنا أخ لک کان على مثل دینک، و هو رجل من قومک، من قیس بن ثعلبة، و هو فى نعمة کنعمتک، فتواسیا و تجاورا، و لست أدع أن أورد علیکما حقکما فى الاسلام – أى سهمکما من مال المسلمین -.

فقال: والله – أصلحک الله – أنى لغنى، و لقد ترکت ثلاثمائة طروق – أى ما یصلح للضراب – بین فرس و فرسة، و ترکت ألف بعیر. فحقک فیها أوفر من حقى.

فقال له: أنت مولى الله و رسوله، و أنت فى حد نسبک على حالک.

فحسن اسلامه، و تزوج امرأة من بنى فهر، و أصدقها أبوابراهیم علیه‏السلام خمسین دینارا من صدقة على بن أبى‏طالب علیه‏السلام، و أخدمه، و بوأه، و أقام حتى أخرج أبوابراهیم علیه‏السلام الى بغداد بأمر الخلیفة، فمات بعد مخرجه بثمان و عشرین لیلة»(13)

و ورد الخبر عن یعقوب بن جعفر نفسه هکذا:

«کنت عند أبى‏ابراهیم علیه‏السلام، و أتاه رجل من أهل نجران الیمن، من الرهبان، و معه راهبة، فاستأذن لهما الفضل بن سوار.

فقال – علیه‏السلام – له: اذا کان غدا، فأت بهما عند بئر أم خیر.

فوافینا من الغد فوجدنا القوم قد وافوا. فأتى بخصفة بوارى – أى حصیرة من ورق النخل – ثم جلس و جلسوا.

فبدأت الراهبة بالمسائل، فسألت عن مسائل کثیرة. کل ذلک یجیبها، و یسألها أبوابراهیم علیه‏السلام عن أشیاء لم یکن عندها فیها شى‏ء، ثم أسلمت.

ثم أقبل الراهب یسأله، فکان یجیبه فى کل ما یسأله.

فقال الراهب: قد کنت قویا على دینى، و ما خلفت أحدا من النصارى فى الأرض یبلغ مبلغى فى العلم. و لقد سمعت برجل فى الهند اذا شاء حج الى بیت المقدس فى یوم و لیلة، ثم یرجع الى منزله بأرض الهند. فسألت عنه بأى أرض هو؟. فقیل لى: انه بسبذان – و قیل بسندان -. و سألت الذى أخبرنى فقال: هو علم الاسم الذى ظهر به آصف صاحب سلیمان لما أتى

بعرش سبأ. و هو الذى ذکره الله لکم فى کتابکم، و لنا معشر [لأهل] الأدیان فى کتبنا.

فقال له أبو ابراهیم علیه‏السلام: فکم لله من اسم لا یرد!.

فقال الراهب: الأسماء کثیرة، فأما المحتوم منها، الذى لا یرد سائله فسبعة. فقال له أبوالحسن علیه‏السلام: فأخبرنى عما تحفظ منها.

فقال الراهب: لا والله الذى أنزل التوراة على موسى، و جعل عیسى عبرة للعالمین، و فتنة لشکر أولى الألباب، و جعل محمدا برکة و رحمة، و جعل علیا علیه‏السلام عبرة و بصیرة، و جعل الأوصیاء من نسله و نسل محمد، ما أدرى؛ و لو دریت ما احتجت فیه الى کلامک، و لا جئتک، و لا سألتک.

فقال له أبوابراهیم علیه‏السلام: عد الى حدیث الهندى.

فقال الراهب: سمعت هذه الأسماء و لا أدرى ما بطانتها و لا شرایحها. و لا أدرى ما هى، و لا کیف هى، و لا بدعائها. فانطلقت حتى قدمت سبذان الهند. فسألت عن الرجل فقیل لى: انه بنى دیرا فى جبل فصار لا یخرج و لا یرى الا فى کل سنة مرتین. و زعمت الهند أن الله فجر له عینا فى دیره، و زعمت الهند أنه یزرع له من غیر زرع یلقیه، و یحرث له من غیر حرث یعمله!.

فانتهیت الى بابه، فأقمت ثلاثا لا أدق الباب، و لا أعالج الباب. فلما کان الیوم الرابع فتح الله الباب، و جاءت بقرة علیها حطب تجر ضرعها، یکاد یخرج ما فى ضرعها من اللبن، فدفعت الباب فانفتح، فتبعتها و دخلت.

فوجدت الرجل قائما ینظر الى السماء فیبکى، و ینظر الى الأرض فیبکى، و ینظر الى الجبال فیبکى!.

فقلت: سبحان الله ما أقل ضربک – أى أمثالک – فى دهرنا هذا!.

فقال لى: والله ما أنا سوى حسنة من حسنات رجل خلفته وراء ظهرک.

فقلت له: أخبرت أن عندک اسما من أسماء الله، تبلغ به فى کل یوم و لیلة بیت المقدس و ترجع الى بیتک.

فقال لى: و هل تعرف بیت المقدس؟.

قلت: لا أعرف الا بیت المقدس الذى بالشام.

قال: لیس بیت المقدس، ولکنه البیت المقدس، و هو بیت آل محمد صلى الله علیه و اله و سلم.

فقلت له: أما ما سمعت به الى یومى هذا، فهو بیت المقدس.

فقال لى: تلک محاریب الأنبیاء، و انما کان یقال لها: حظیرة المحاریب، حتى جاءت الفترة التى کانت بین محمد و عیسى صلى الله علیهما، و قرب البلاد من أهل الشرک و حلت النقمات فى دور الشیاطین، فحولوا، و بدلوا، و نقلوا تلک الأسماء، و هو قول الله تبارک و تعالى: – البطن لآل محمد، و الظهر مثل -: (ان هى الا أسماء سمیتموها أنتم و ءاباؤکم ما أنزل الله بها من سلطان)(14)

فقلت له: انى قد ضربت الیک من بلد بعید، تعرضت لک بحارا، و غموما، و هموما، و خوفا، و أصبحت و أمسیت مؤیسا ألا أکون ظفرت بحاجتى.

فقال لى: ما أرى أمک حملت بک، الا و قد حضرها ملک کریم، و لا

أعلم أن أباک حین أراد الوقوع بأمک، الا و قد اغتسل و جاءها على طهر، و لا أزعم الا أنه قد کان درس السفر الرابع من سحره ذلک فختم له بخیر.

ارجع من حیث جئت، فانطلق حتى تنزل مدینة محمد صلى الله علیه و اله و سلم، التى یقال لها: طیبة، و قد کان فى الجاهلیة یثرب، ثم اعمد الى موضع منها یقال له: البقیع، ثم سل عن دار یقال لها: دار مروان، فانزلها و أقم ثلاثا. ثم سل عن [الشیخ] الأسود الذى یکون على بابها یعمل البوارى، و هى فى بلادهم اسمها: الخصف. فالطف بالشیخ و قل له: بعثنى نزیلک الذى کان ینزل فى الزاویة فى البیت الذى فیه الخشیبات الأربع. ثم سله عن فلان بن فلان الفلانى، وسله أین نادیه، وسله أى ساعة یمر فیها فلیرکه، أو یصفه لک فتعرفه بالصفة، و سأصفه لک.

قلت: فاذا لقیته، فأصنع ماذا؟

قال: سله عما کان، و عما هو کائن!. و سله عن معالم دین من مضى و من بقى.

فقال له أبو ابراهیم علیه‏السلام: قد نصحک صاحبک الذى لقیت.

فقال الراهب: ما اسمه جعلت فداک؟.

قال: هو متمم بن فیروز، و هو من أبناء الفرس، و هو ممن آمن بالله وحده لا شریک له، و عبده بالإخلاص و الایقان، و فر من قومه لما خافهم، فوهب له ربه حکما، و هداه لسبیل الرشاد، و جعله من المتقین، و عرف بینه و بین عباده المخلصین. و ما من سنة الا و هو یزور فیها مکة حاجا، و یعتمر فى رأس کل شهر مرة، و یجى‏ء من موضعة من الهند الى مکة فضلا من الله و عونا، و کذلک یجزى الله الشاکرین.

ثم سأله الراهب عن مسائل کثیرة، کل ذلک یجیبه فیها.

و سأله الراهب عن أشیاء لم یکن عند الراهب فیها شى‏ء، فأخبره بها.

ثم ان الراهب قال: أخبرنى عن ثمانیة أحرف نزلت فتبین فى الأرض منها أربعة، و بقى فى الهواء منها أربعة. على من نزلت تلک الأربعة التى فى الهواء، و من یفسرها؟.

قال: ذاک قائمنا، ینزله الله علیه فیفسره. و ینزل علیه ما لم ینزل على الصدیقین و الرسل و المهتدین.

ثم قال الراهب: فأخبرنى عن الاثنین من تلک الأربعة التى فى الأرض ما هى؟.

قال: أخبرک بالأربعة کلها:

أما أولاهن، فلا اله الا الله وحده لا شریک له باقیا.

و الثانیة: محمد رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم مخلصا.

و الثالثة: نحن، أهل البیت.

و الرابعة: شیعتنا منا، و نحن من رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم، و رسول الله من الله.

فقال له الراهب: أشهد أن لا اله الا الله، و أن محمدا رسول الله، و أن ما جاء به من عند الله حق، و أنکم صفوة الله من خلقه، و أن شیعتکم المطهرون المستبدلون – المستدلون – فلهم عاقبة الله، والحمدلله رب العالمین.

فدعا أبو ابراهیم علیه‏السلام بجبة خز، و قمیص قوهى – ضرب من الثیاب – و طیلسان، و خف و قلنسوة فأعطاه ایاها. و صلى الظهر، و قال له: اختتن.

فقال: قد اختتنت فى سابعى – أى الیوم السابع من ولادته»(15)

و لو أطلقنا للقلم عنانه، لبدا عاجزا فى میدان بیان علم الأئمة بما کان، و بما هو کائن الى یوم القیامة!. فإنهم علماء غیر معلمین، و هکذا خلقهم رب العالمین… و بمقدار ما یحاول الانسان البحث فى علمهم و من أین کان، و کیف أتاهم، و کیف استوعبوه، بمقدار ما یظهر جهله بحالهم التى تفرق کثیرا عن حال سائر العالمین.

و کما أنه سبحانه خلق الطویل و القصیر، و الأبیض و الأسود، و الذکى و الأحمق، والأنثى و الذکر، فکذلک خلق الامام اماما منذ ولادته، کما خلقنى و خلقک غیر امامین من حین ولادتنا. و کذلک أعطاه الفهم و العلم کما أعطاه اللحم و العظم و جمیع مقومات الجسم. و لا یعجب من ذلک الا من یضیق صدره بالحقائق الربانیة؛ و هذا لا شأن لنا معه على کل حال، لأنه لم یقتنع بما جاء به الأنبیاء و المرسلون، أفنحاول أن نقنعه و نحن لا نملک المعجزة، و لا نستطیع ابتداع الخوارق؟. لا، فنحن نکتب لمن یطلب الحق أینما کان، و ینشد الحقیقة أنى وجدت.

قیل أنه: «دخل موسى بن جعفر علیه‏السلام بعض قرى الشام متنکرا هاربا. فوقع فى غار و فیه راهب یعظ فى کل سنة یوما.

فلما رآه الراهب دخله منه هیبة، فقال: یا هذا، أنت غریب؟.

قال: نعم.

قال: منا أو علینا؟.

قال: لست منکم.

قال، أنت من الأمة المرحومة؟.

قال: نعم.

قال: أفمن علمائهم أنت، أم من جهالهم؟.

قال: لست من جهالهم.

فقال: کیف طوبى أصلها فى دار عیسى، و عندکم فى دار محمد، و أغصانها فى کل دار؟!.

فقال علیه‏السلام: الشمس قد وصل ضوؤها الى کل مکان، و کل موضع، و هى فى السماء.

قال: و فى الجنة لا ینفد طعامها و ان أکلوا منه، و لا ینقص منه شى‏ء؟!.

قال: السراج فى الدنیا یقتبس منه، و لا ینقص منه شى‏ء. – أى من نوره -.

فقال: فى الجنة ظل ممدود؟!.

فقال علیه‏السلام: الوقت الذى قبل طلوع الشمس (کله) ظل ممدود قوله: (ألم تر الى ربک کیف مد الظل…)(16) – یعنى أن الظل الممدود یشبه ذلک -.

قال: ما یؤکل و یشرب فى الجنة، لا یکون بولا و لا غائطا؟!.

قال علیه‏السلام: الجنین فى بطن أمه… – أى حاله حال الجنین الذى یتغذى و لا یخرج فضلات -.

قال: أهل الجنة لهم خدم یأتونهم بما أرادوا بلا أمر؟!.

قال: اذا احتاج الانسان الى شى‏ء، عرفت أعضاؤه ذلک. و یفعلون مراده بلا أمر. – یعنى أن الخدم کالأعضاء التى تحس بالحاجة -.

قال: مفاتیح الجنة من ذهب أو فضة؟!.

قال: مفاتیح الجنة لسان العبد: لا اله الا الله.

قال: صدقت، و أسلم و الجماعة معه».(17)

فأنت ترى أن الأسئلة التى سألها الراهب کانت مبتکرة، ولکنها کانت لا تستعصى على الامام علیه‏السلام. و هى ان دلت على شى‏ء فانما تدل على علم هذا الراهب العارف بالدین، الباحث عن الحق، الساعى وراء الحقیقة التى بشر بها دینه الکریم على لسان نبیه عیسى بن مریم علیه‏السلام… و هذا الراهب یعرف أکثر الأجوبة على أسئلته من طریق دینه المسیحى بلا أدنى ریب، ولکنه أنما سأل الامام عنها لیعرف أن هذا الرجل الذى دخلته منه الهیبة حین رآه، هل هو من الأولیاء، أم من السوقة فى الأمة المرحومة التى ینتسب الیها. فلم یحاور محاورة مکابرة، و لا تعنت فى أسئلته، بل کانت أسئلته بمنتهى العفویة، و تلقى أجوبتها بمنتهى الرضى و القبول، فاستدل على علم هذا الامام العظیم بأبسط الطرق و أقصرها… فما أحسن محاجة العلماء؟!.


1) مناقب آل أبى‏طالب ج 4 ص 311-310 و هو فى حلیة الأبرار ج 2 ص 225، و قد ذکر فى حدیث طویل فى الوافى ج 1 باب: ما یتمیز به الحیض من دم العذرة و القرحة.

2) سورة العلق: 5.

3) سورة طه: 121.

4) الاحتجاج ج 2 ص 387.

5) المحجة البیضاء ج 4 ص 271- 270 و کشف الغمة ج 3 ص 13-12 و الارشاد ص 273 – 272 و اعلام الورى ص 292 – 291 و حلیة الأبرار ج 2 من ص 231 الى ص 233 و هو مکرر فى ص 332 باختصار، و کذلک فى ص 234 و ص 235 و هو کذلک فى مناقب آل أبى‏طالب ج 4 ص 291 – 290.

6) سورة یس: 39.

7) سورة التوبة: 25.

8) مناقب آل ابى‏طالب ج 4 ص 292-291.

9) هو فى التوحید ص 270.

10) سورة آل عمران: 34.

11) التوحید ص 275- 274 و الکافى م 1 ص 227 و هو فى مناقب آل أبى‏طالب ج 4 ص 310 و الأنوار البهیة من ص 155 الى ص 157 فى حدیث مفصل، و انظر حلیة الأبرار ج 2 ص 240.

12) سورة الدخان: 4-1.

13) الکافى م 1 من ص 478 الى ص 481 و هو بتمامه فى حلیة الأبرار ج 2 من ص 236 الى ص 240.

14) سورة یوسف: 40 و سورة النجم: 23.

15) الکافى م 1 ص 481 الى ص 484 و حلیة الأبرار ج 2 من ص 240 الى ص 244.

16) سورة الفرقان: 45.

17) مناقب آل أبى‏طالب ج 4 ص 312 – 311.