جستجو
این کادر جستجو را ببندید.

عبادته و کرمه

زمان مطالعه: 15 دقیقه

قال الشیخ المفید رحمه الله: «کان أبوالحسن، موسى علیه‏السلام، أعبد أهل زمانه، و أفقههم، و أسخاهم کفا، و أکرمهم نفسا.

و روى أنه کان یصلى نوافل اللیل و یصلها بصلاة الصبح، ثم یعقب حتى تطلع الشمس، و یخر لله ساجدا، فلا یرفع رأسه من الدعاء و التحمید حتى یقرب زوال الشمس – ظهرا – و کان یدعو کثیرا، و یقول: اللهم انى أسألک الراحة بعد الموت، و العفو عند الحساب، و یکثر ذلک.

و کان من دعائه علیه‏السلام: عظم الذنب من عبدک، فلیحسن العفو من عندک.

و کان یبکى من خشیة الله حتى تخضل لحیته بالدموع – أى تبتل -.

و کان أوصل الناس لأهله و رحمه.

و کان یتفقد فقراء المدینة فى اللیل، فیحمل الیهم الزنبیل: فیه العین – أى مواد الغذاء و الألبسة – و الورق – یعنى النقد – و الدقیق و التمر، فیوصل الیهم ذلک و لا یعلمون من أى جهة هو»(1)

و قال رحمه الله أیضا: و قد روى الناس عن أبى‏الحسن، موسى علیه‏السلام، فأکثروا. و کان أفضل أهل زمانه، و أحفظهم لکتاب الله، و أحسنهم صوتا بالقرآن؛ و کان اذا قرأ یحزن، ویبکى، ویبکى السامعون لتلاوته. و کان الناس بالمدینة یسمونه زین المتهجدین، و سمى بالکاظم لما کظمه من الغیظ و صبر علیه من فعل الظالمین به، حتى مضى قتیلا فى حبسهم و وثاقهم».(2)

و وصفه حفص فى حدیث طویل قال فى آخره:

«فما رأیت أحدا أشد خوفا على نفسه من موسى بن جعفر، و لا أرجى للناس منه؛ و کانت قراءته حزنا، فاذا قرأ فکأنه یخاطب انسانا».(3)

و قد کان علیه‏السلام حسن الصوت، و حسن القراءة. قال یوما من الأیام: ان على بن الحسین علیه‏السلام، کان یقرأ القرآن، فربما مر المار فصعق من حسن صوته!. و ان الامام لو أظهر من ذلک شیئا لما احتمله الناس.

و قیل له: ألم یکن رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم یصلى بالناس و یرفع صوته بالقرآن؟.

فقال: ان رسول الله کان یحمل من خلفه ما یطیقون».(4)

«و قال بعض عیونه – من الذین کانوا یراقبونه فى السجون -: کنت

أسمعه کثیرا یقول فى دعائه: «اللهم انى کنت أسألک أن تفرغنى لعبادتک، اللهم و قد فعلت، فلک الحمد»(5)

و امامنا – و کل امام من سلفه و خلفه علیهم‏السلام جمیعا – معصوم عن الذنوب قطعا، و بعید عن ارتکاب المعاصى صغیرها و کبیرها، و لا یفعل خلاف الأولى و الأحسن، ولکنه قیل: ان حسنات الأبرار سیئات المقربین، فهو یعتبر أن ترکه للأولى و المستحب ذنبا عظیما فى جنب عظمة الله عزوجل؛ و هذا الذى کان یصدر عنه و عن الأئمة علیهم‏السلام من التواضع فى الدعاء و التذلل فى الاستغفار، و الخوف من العقاب، ان هو الا تعلیم لنا، و تأدیب بأدب الخضوع و الخشوع بین یدى الخالق العظیم عز و علا.

و قد روى أنه دخل مسجد رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم، فسجد سجدة فى أول اللیل فسمع و هو یقول: عظم الذنب من عبدک، فلیحسن العفو من عندک، یا أهل التقوى، و یا أهل المغفرة… فجعل یرددها حتى أصبح».(6)

و قال بعض أصحابنا: «کان أبوالحسن علیه‏السلام: اذا رفع رأسه من آخر رکعة الوتر قال: هذا مقام من حسناته نعمة منک، و شکره ضعیف، و ذنبه عظیم، و لیس لذلک الا رفقک و رحمتک، فانک قلت فى کتابک المنزل على نبیک المرسل: (کانوا قلیلا من الیل ما یهجعون (17) و بالأسحار هم یستغفرون (18))(7)

طال هجوعى، و قل قیامى، و هذا السحر و أنا أستغفرک لذنبى استغفار من لا یملک لنفسه ضرا و لا نفعا، و لا موتا و لا حیاة و لا نشورا… ثم یخر ساجدا صلوات الله علیه»(8)

فهل ذلک الاستغفار کان من ذنب جناه؟.

لا، ولکنه یزید فى درجاته العلیا فى الآخرة، و یکون لنا مثلا یحتذى فى أدبنا التعبدى.

و روى محمد بن سلیمان ما سمعه عن أبیه، فقال:

«خرجنا مع أبى‏الحسن، موسى بن جعفر علیه‏السلام الى بعض أمواله – أى ممتلکاته – فقام الى صلاة الظهر. فلما فرغ خر لله ساجدا، فسمعته یقول بصوت حزین و تغرغر دموعه: عصیتک بلسانى و لو شئت و عزتک لأخرستنى، و عصیتک ببصرى و لو شئت و عزتک لأکمهتنى – أى أعمیتنى – و عصیتک بسمعى و لو شئت و عزتک لأصممتنى – أى جعلتنى أصم، لا أسمع – و عصیتک بیدى و لو شئت و عزتک لکنعتنى – أى لکسرت یدى، أو شللتها- و عصیتک برجلى ولو شئت و عزتک لجذمتنى – أى ابتلیتنى بالجذام – و عصیتک بفرجى و لو شئت و عزتک لأعقمتنى – أى جعلتنى عقیما – و عصیتک بجمیع جوارحى التى أنعمت بها على، و لیس هذا جزاؤک منى»(9)

«قال: ثم أحصیت له ألف مرة و هو یقول: العفو العفو! ثم ألصق خده الأیمن بالأرض فسمعته یقول بصوت حزین: بؤت الیک بذنبى، عملت سوءا و ظلمت نفسى، فاغفر لى فانه لا یغفر الذنوب غیرک یا مولاى – ثلاث مرات -. ثم ألصق خده الأیسر بالأرض و هو یقول: ارحم من أساء و اقترف، و استکان و اعترف – ثلاث مرات -. ثم رفع رأسه»(10)

و من مظاهر خضوعه بین یدى الله تعالى نورد ما رواه محمد بن اسماعیل بن بزیع الذى قال:

«رأیت أباالحسن علیه‏السلام رکع رکوعا أخفض من رکوع کل من رأیته یرکع، فکان اذا رکع جنح بیدیه»(8)

و هذا من زیادة الخضوع لله عزت قدرته. ثم قال الراوى نفسه:

«رأیت أباالحسن علیه‏السلام اذا سجد یحرک ثلاث أصابع من أصابعه، واحدة بعد واحدة، تحریکا خفیفا کأنه یعد التسبیح، ثم رفع رأسه»(11)

و مما یظهر شدة تواضعه و تذلله أمام خالقه ما رواه جعفر بن على الذى قال:

«رأیت أباالحسن علیه‏السلام، و قد سجد بعد الصلاة، فبسط ذراعیه على الأرض، و ألصق جؤجؤه – أى صدره – بالأرض فى دعائه»(11)

فهو عبد داخر لله عزوجل، تصله بالسماء تأملات، و تشده الى ربه لحظات لا سبیل لنا الى تصورها و التعبیر عنها، لأنها من سمات الأصفیاء الذین تفنى ذواتهم اذا وقفوا بین یدى بارئهم و تصوروا قدرته فى خلوات لهم، و تستعصى علینا الألفاظ و التعابیر اذا شئنا تقریبها الى الأذهان.

و قد روى على بن جعفر أن أخاه الامام موسى بن جعفر علیه‏السلام، قال:

«ألتبتل أن تقلب کفیک فى الدعاء اذا دعوت.

و الابتهال أن تبسطهما، و تقدمهما.

و الرغبة أن تستقبل براحتیک السماء، و تستقبل بهما وجهک.

و التضرع أن تحرک اصبعیک و تشیر بهما.

و فى حدیث آخر: البصبصة أن ترفع سبابتیک الى السماء و تحرکهما، و تدعو».(12)

فهل یتیسر تحدید هذه المواقف من الخشوع لرب الأرباب، الا لمن مارسها و دأب علیها، و أدرک الفروقات الدقیقة بینها؟.

لا، و أیم الحق… و لقد قال هشام بن أحمر – أحمد-:

«کنت أسیر مع أبى‏الحسن علیه‏السلام فى بعض أطراف المدینة، اذ ثنى رجله من دابته فخر ساجدا، و أطال و أطال!.

ثم رفع رأسه، و رکب دابته؛ فقلت: جعلت فداک، قد أطلت السجود!.

فقال: انى ذکرت نعمة أنهم الله بها على، فأحببت أن أشکر ربى».(13)

(… و قلیل من عبادى الشکور (13))(14) یا سیدى، کما قال ربک… ولکنکم أنتم على رأس لائحة الشاکرین لأنعم الله تبارک و تعالى؛ و نحن نشکر الله سبحانه أن من علینا بتولیکم و الائتمار بأمرکم.

و لقد قیل عن هذا الامام العظیم: «و کان علیه‏السلام یقول: انى أستغفرالله فى کل یوم خمسة آلاف مرة»(6)

فنسأل المولى القدیر أن یغفر لنا – بحقه – ما تقدم من ذنوبنا و ما تأخر.

و لن ننسى أن ننقل للقارى‏ء الکریم وصفه على لسان عدوه اللدود و عدو بنى على جمیعا، و هو المأمون العباسى الذى وصفه حین ذکر وروده على أبیه هارون الرشید، فقال:

«رأیت موسى بن جعفر، دخل على أبى‏بالمدینة، اذ هو شیخ مسجد – أى له سجادة بین عینیه من أثر سجوده الطویل – قد أنهکته العبادة و کأنه شن بال، قد کلم السجود وجهه و أنفه – أى جرحهما-»(15)

ثم روى عن الفضل بن الربیع الذى تولى سجنه فى بیته مدة طویلة، أنه قال:

«أرسلنى الرشید الى موسى بن جعفر علیه‏السلام فقلت لغلامه: استأذن لى الى مولاک یرحمک الله.

فقال لى: لج – أى ادخل – لیس له حاجب و لا بواب.

فولجت الیه فاذا بغلام أسود بیده مقص، یأخذ اللحم من جبینه و عرنین أنفه من کثرة سجوده».(11)

فمثل هذا العابد الزاهد یخاصم یا مأمون؛ قلها لأبیک هارون، و قل لمن سبقه و من لحقه: اذا وقفتم بین یدى الله بماذا تجیبون؟!.

هذا، و قد «روى أنه توفى – صلوات الله علیه – فى حال سجوده لله تعالى»(6)

و کفى بذلک استکانه و تواضعا لله عزوجل.

و روى الصدوق، ورواه ابن‏بابویه فى عیون الأخبار، أن الثوبانى قال: «انه کانت لأبى الحسن، موسى بن جعفر – علیه‏السلام – بضع عشرة سنة کل یوم سجدة بعد ابیضاض الشمس الى نصف الزوال.

قال: فکان هارون ربما صعد سطحا یشرف منه على الحبس الذى حبس فیه أباالحسن – علیه‏السلام – فکان یرى أباالحسن – علیه‏السلام – ساجدا، فقال للربیع:

ما ذاک الثوب الذى أراه کل یوم فى ذلک الموضع؟.

قال: یا أمیرالمؤمنین، ما ذاک بثوب، و انما هو موسى بن جعفر، له کل یوم سجدة بعد طلوع الشمس الى وقت الزوال.

فقال له هارون: أما ان هذا من رهبان بنى‏هاشم!أ

قلت: فما بالک قد ضیقت علیه فى الحبس؟!.

قال: هیهات… لابد من ذلک»(16)

و أنا أقول لهذا الخلیفة الظالم: (هیهات هیهات لما توعدون (36))(17)

من عذاب الله الألیم، بعد الوقوف بعد یدى الحاکم العادل أمام رسول الله صلى الله علیه و آله و سلم!.

فان هذا الخصم سیردیک فى النار خالدا مخلدا.

قد قلت: «لا بد من ذلک»… و یقول لک: لا بد لک من ندم و حسرة… ولات ساعة مندم!.

و أنت من خلفاء ما کان ینقصهم الفهم، و لا غاب عن علمهم أنهم یفتکون، بآل الله و رسوله، الذین هم أبناء عمومتهم من جهة، و أعظم أهل عصورهم عندالله تعالى من جهة ثانیة…

فیا ویلکم!…. وانتظروا (یوما یجعل الولدان شیبا (17))(18)

أما سجود الامام علیه‏السلام، فقد کان مضرب المثل عند الخاص و العام، حتى أن ذلک الخلیفة التعیس سماه من رهبان بنى‏هاشم، و مع ذلک رأى أنه لابد من التضییق علیه لیستقیم له الحکم بغیر ما أنزل الله!.

و رویت القصة السابقة عن على بن ابراهیم عن الیقطینى، عن أحمد بن عبدالله القزوینى، عن أبیه، – هکذا – قال:

«دخلت على الفضل بن الربیع و هو جالس على سطح، فقال‏لى: أدن منى.

فدنوت حتى حاذیته، ثم قال لى: أشرف الى البیت فى الدار.

فأشرفت، فقال: ما ترى فى البیت؟.

قلت: ثوبا مطروحا.

فقال: أنظر حسنا.

فتأملت و نظرت، فتبینت، فقلت: رجل ساجد.

فقال لى: تعرفه؟.

قلت: لا.

قال: هذا مولاک… تتجاهل على؟!.

فقلت: ما أتجاهل، ولکنى لا أعرف لى مولى.

فقال: هذا أبوالحسن، موسى بن جعفر – علیه‏السلام – انى أتفقده فى اللیل و النهار، فلم أجده فى وقت من الأوقات الا على الحال التى أخبرک بها.

انه یصلى الفجر، فیقف ساعة فى دبر صلاته الى أن تطلع الشمس، ثم یسجد سجدة فلا یزال ساجدا حتى تزول الشمس. و قد و کل من یترصد له الزوال. فلست أدرى متى یقول الغلام: قد زالت الشمس، اذ یثب فیبتدى‏ءبالصلاة من غیر أن یجدد وضوءه، فأعلم أنه لم ینم فى سجوده و لا أغفى، فلا یزال کذلک حتى یفرغ من صلاة العصر. فاذا صلى العصر سجد سجدة فلا یزال ساجدا الى أن تغیب الشمس. فاذا غابت الشمس و ثب من سجدته فصلى المغرب من غیر أن یحدث حدثا، و لا یزال فى صلاته و تعقیبه الى أن یصلى العتمة – أى صلاة العشاء – فاذا صلى العتمة أفطر على شوى یؤتى به، ثم یجدد الوضوء، ثم یسجد، ثم یرفع رأسه فینام نومة خفیفة، ثم یقوم فیجدد الوضوء، ثم یقوم فلا یزال یصلى فى جوف اللیل حتى یطلع الفجر!.

فلا أدرى متى یقول الغلام: ان الفجر قد طلع، اذ قد وثب هو لصلاة الفجر… فهذا دابه منذ حول الى!.

[و زاد فى حلیة الأبرار]:

فقلت له: اتق الله، و لا تحدث فى أمره حدثا یکون فیه زوال النعمة فقد تعلم أنه لم یفعل أحد بأحد منهم سوءا، الا کانت نعمته زائلة.

فقال: قد أرسلوا الى فى غیر مرة یأمرونى بقتله، فلم أجبهم الى ذلک،

و أعلمتهم أنى لا أفعل ذلک، و لو قتلونى ما أجبتهم الى ما سألونى»(19)

و أمام هذه الصورة الشمسیة یقف المرء متعجبا من جلد هذا السید الکبیر على التعبد لیل نهار، دون ملل و لا فتور، الى جانب صیامه و قلة نومه و اخلاده الى الراحة.

أما کرم بنى‏هاشم فهو مضرب المثل حتى أیامنا هذه. و قد أطنب التاریخ فى الحدیث عن نداوة أکفهم، و ذکر ما یکاد لا یصدقه الانسان.

لقد کانوا یعطون أکثر مما ینتظر منهم المؤملون، و لا یفضلون بذلک. ولیا على عدو، بل کان خیرهم مبذولا لجمیع أصحاب الحاجات بدون تمایز و لا تمییز.

و امامنا الکاظم علیه‏السلام کان من أسخى أسخیائهم، فقد کان یعطى کل محتاج و یعم بره القاصى و الدانى، فتحدث بعطائه الناس و تعجبوا من عطائه و بذله. فمن المشهور عنه أنه کان یتفقد فقراء المدینة فى کل لیلة کما ذکرنا، و کان یصل بالمائة دینار، و بالمائتى دینار، و بالثلاثمائة دینار، و کانت صرار موسى مثلا.(20)

«و ذکر أنه علیه‏السلام بعث الى رجل یؤذیه صرة فیها ألف دینار».(21)

و قال عنه الشیخ عباس القمى رحمه الله:

«و کان کریما، بهیا، فأعتق ألف مملوک».(22)

و نحن فى هذا الموضوع نورد للقارى‏ء بعض الحوادث التى ذکرها المؤرخون مع بخلهم العجیب بذکر شى‏ء یلفت النظر الى أهل هذا البیت الکریم صلوات الله و سلامه علیهم، مضافا الى ضغوظ السلاطین الظالمین الذى کانوا یهزون السوط لکل من یقول کلمة حق تعارض سلطتهم و جبروتهم.

فى تفسیر الامام أبى‏محمد العسکرى علیه‏السلام، قال:

«و قد حضره – أى الکاظم علیه‏السلام – فقیر مؤمن فسأله سد فاقته.

فضحک علیه‏السلام فى وجهه و قال: أسألک مسألة، فان أصبتها أعطیتک عشرة أضعاف ما طلبت. و کان قد طلب منه مائة درهم یجعلها فى بضاعة یتعیش بها.

فقال الرجل: سل.

فقال موسى – علیه‏السلام – لو جعل الیک التمنى لنفسک فى الدنیا، ماذا کنت تتمنى؟.

قال: کنت أتمنى أن أزرق التقیة فى دینى، و قضاء حقوق اخوانى.

قال – علیه‏السلام -: و ما لک ما تسأل الولایة لنا أهل البیت؟.

قال: ذلک قد أعطیته، و هذا لم أعطة. فأنا أشکر على ما أعطیت، و أسأل ربى ما منعت.

فقال: أحسنت. أعطوه ألفى درهم. و قال: اصرفها فى کذا و کذا

– یعنى العفص فانه متاع بائر، و سیقبل بعدما أدبر. فانتظر به سنة، و اختلف الى دارنا، و خذ الأجر فى کل یوم.

ففعل. فلما تمت له سنة اذ قد زاد فى ثمن العفص للواحد خمسة عشر.

فباع ما کان اشترى بألفى درهم بثلاثین ألف درهم.(23)

و أنت یا قارئى العزیز ترى أن لطفه مع هذا السائل الفقیر کان أجمل من عطائه و قضاء حاجته. بل ان اقتراحه علیه بأن یشترى العفص و ینتظر به عاما لأنه سیرتفع ثمنه و یقبل بعد ما أدبر، لهو اقتراح عجیب اذا تأملت به ملیا…

و اذا رأینا أن هذا الرجل الطامع بمائة درهم قد استفاد فى سنة ثلاثین ألف درهم، مع الأجر الذى کان یأخذه من الامام علیه‏السلام لقاء اختلافه الى داره فى کل یوم للقیام ببعض الخدمات، أقول: اذ رأینا ذلک لحق لنا أن نسأل: من أین أوتى الامام هذا العلم بارتفاع ثمن العفص بعد بواره؟!.

و حدث عیسى بن محمد بن مغیث القرطبى، فقال:

«زرعت بطیخا و قثاء و قرعا فى موضع بالجوانیة، على بئر یقال لها: أم عظام. فلما قرب الخیر و استوى الزرع، بیتنى الجراد و أتى على الزرع کله!. و کنت عزمت على الزرع ثمن جملین و مائة و عشرین دینارا.

فبینا أنا جالس اذ طلع موسى بن جعفر بن محمد، فسلم على ثم قال: أیش حالک؟. – مخفف: أى شى‏ء حالک؟ -.

قلت: أصبحت کالصریم. بیتنى الجراد و أکل زرعى.

قال: کم عزمت.

قلت: مائة و عشرین دینارا مع ثمن جملین.

فقال: یا عرفة، ان لأبى الغیث مائة و خمسین دینارا. فربحک ثلاثون دینارا و الجملان.

فقلت: یا مبارک، ادع لى فیها بالبرکة:

فدخل فدعا لى، وحدثنى أن رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم قال: تمسکوا ببقاء المصایب. – أى تمسکوا بالله عند بقاء المصایب -.

ثم علقت علیه الجملین، و سقیته – أى الزرع – و جعل الله فیه البرکة، و زکت فبعت منها بعشرة آلاف»(24)

و هکذا فانه علیه‏السلام، دخل على هذا الرجل بعد أن أکل الجراد ورق زرعه و أغصانه، فوجده حزینا لما حل بزرعه. ولکنه سرعان ما أعطاه و طیب خاطره، و أمره باعادة سقایة الزرع، و وعده بعودة نجاح زرعه من جدید، و وعده بالربح أیضا، و قدر له ذلک بحزم.

و حین طلب منه الرجل أن یدعوا له بالبرکة فى زرعه، فعل فزکت غلتها، و حصل منها على ربح وفیر بعد أن کان یائسا من أن یجنى منها درهما واحدا.

و عن الشریف أبى‏محمد، الحسن بن محمد، عن جده، عن غیر واحد من أصحابه قال:

«ان رجلا من ولد عمر بن الخطاب، کان فى المدینة یؤذى أباالحسن، موسى علیه‏السلام، و یسبه اذ رآه، و یشتم علیا علیه‏السلام.

فقال له أصحابه: دعنا نقتل هذا الفاجر.

فنهاهم عن ذلک، و زجرهم أشد الزجر.

و سأل عن العمرى، فقیل بأنه خرج الى زرع له.

فخرج الیه، و دخل المزرعة بحماره!. فصرح العمرى: لا توطى‏ء زرعنا.

فتوطأه أبوالحسن علیه‏السلام بالحمار حتى وصل الیه. فنزل و جلس عنده، و باسطه و ضاحکه و قال: کم عزمت على زرعک هذا؟.

فقال: مائتى دینار.

قال: فکم ترجوا أن یحصل منه؟.

قال: لست أعلم الغیب.

قال: انما قلت کم ترجوا أن یجیئک فیه؟.

قال: أرتجى فیه مائتى دینار.

فأخرج له أبوالحسن صرة فیها ثلاثمائة دینار، و قال: هذا زرعک على حاله، و الله یرزقک ما ترجو.

فقام العمرى فقبل رأسه، و سأله أن یصفح عن فارطه – أى ما سبق من السوء-.

فتبسم الیه أبوالحسن و انصرف.

و راح الى المسجد فرأى العمرى جالسا. فلما نظر الیه قال: الله أعلم حیث یجعل رسالته.

فوثب الیه أصحابه فقالوا: ما قصتک؟. قد کنت تقول غیر هذا!.

فقال لهم: قد سمعتم ما قلت الآن؛. و جعل یدعو لأبى الحسن علیه‏السلام، فخاصموه و خاصمهم.

فلما رجع أبوالحسن علیه‏السلام الى داره قال لأصحابه الذین أشاروا بقتل العمرى: کیف رأیتم؟!. أصلحت أمره و کفیت شره».(25)

فهذا هو دیدن أهل بیت الوحى صلوات الله علیهم مع القالى و الموالى. فلم یتصعنوا فى تصرف، و لا داروا، و لا راءوا، و لا ماروا، و لا فعلوا شیئا الا فى ضمن وظیفتهم الالهیة التى کانوا بموجبها أفضل الناس و أکملهم. فان امامنا علیه‏السلام لم یبادل العمرى شتما بشتم، و لا سبابا بسباب، بل أعطاه من لطفه و کرمه ما محى به الضغینة من قلبه، و جعله یعدل عما کان علیه من التعدى، و أصبح حسن الحال و امتنع عن أذیة الامام بعد أن فهم حقیقة ما هو علیه من اللطف و العفو.

قال محمد بن عبدالله البکرى: «قدمت المدینة أطلب دینا فأعیانى. فقلت: لو ذهبت الى أبى‏الحسن، موسى علیه‏السلام، فشکوت الیه.

فأتیته بنقمى – موضع فى ضاحیة المدینة کن یملکه آل أبى‏طالب – فى ضیعته.

فخرج الى و معه غلام، و معه نسف – غربال – فیه قدید مجزع – أى لحم مقطع مجفف – لیس معه غیره. فأکل و أکلت معه، و سألنى عن حاجتى، فذکرت له قصتى.

فدخل و لم یقم الا یسیرا حتى خرج الى و قال لغلامه: اذهب. ثم مد

یده الى فدفع الى صرة فیها ثلاثمائة دینار، ثم قام فولى، فقمت فرکبت دابتى و انصرفت»(26)

فصلوات الله علیک یا سیدى ما أندى کفک، و ما أسعد من کان یتشرف برؤیتک، و یوفقه الله تعالى لخدمتک!.

و یلاحظ أنه لم یخجل الرجل، و لم یعطه الصرة أمام الغلام، بل أمره بالخروج قبل أن یناوله ایاها، خلقا منه و حسن تصرف.

و عن معتب، قال: «کان أبوالحسن، موسى علیه‏السلام، بالحائط، یصرم النخل – فنظرت الى غلام له قد أخذ کارة من تمر – أى صرة – فرمى بها وراء الحائط. فأتیته، فأخذته و ذهبت به الیه فقلت له:

جعلت فداک، انى وجدت هذا و هذه الکارة.

فقال للغلام: فلان!.

قال: لبیک.

قال: أتجوع!.

قال: لا، یا سیدى.

قال: فتعرى؟

قال: لا، یا سیدى.

قال: فلأى شى‏ء أخذت هذه؟!.

قال: اشتهیت ذلک.

قال: اذهب فهى لک… و قال: خلوا عنه».(27)

و من المؤکد أنه لا ینتظر لهذا الغلام الا الاکرام، اذ لا یجرى على ید کاظم الغیط الا الاحسان لمن أساء الیه.

و عن بعض أصحابنا، قال: «أو لم أبوالحسن، موسى علیه‏السلام ولیمة على بعض ولده، فأطعم أهل المدینة ثلاثة أیام الفالوذجات فى الجفان فى المساجد و الأزقة. فعاتبه بذلک بعض أهل المدینة، فبلغه علیه‏السلام ذلک فقال:

ما آتى الله تعالى نبیا من أنبیائه شیئا الا و قد آتى محمدا صلى الله علیه و اله و سلم مثله وزاده ما لم یؤتهم. قال لسلیمان علیه‏السلام: (هذا عطآؤنا فامنن أو أمسک بغیر حساب (39))(28) و قال لمحمد صلى الله علیه و اله و سلم: (و ما ءاتکم الرسول فخذوه و ما نهاکم عنه فانتهوا)(29)

طاش سهمک أیها العائب لأبناء رسول الله فهم لا یعابون على بذل، و لا یلامون على کرم، بل ان أعمالهم الخلقیة مثل یحتذى عند أولى النهى؛ و لقد طهرهم رب الأرباب فى أطهر کتاب، و من عابهم فى قول أو فعل فقد دل على جهله و غبائه و سوء اعتقاده بمحمد صلى الله علیه و اله و سلم و بأهل بیته الذین هم عیبة العلم و أولى الناس بمعرفة ما یجوز و ما لا یجوز.

و یحکى أن المنصور تقدم الى موسى بن جعفر فى الجلوس للتهنئة فى یوم النیروز و قبض ما یحمل الیه.

فقال علیه‏السلام: انى قد فتشت الأخبار عن جدى رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم، فلم أجد لهذا العید خبرا، و انه سنة للفرس و محاها الاسلام.

فقال المنصور: انما نفعل هذا سیاسة للجند، فسألتک بالله العظیم الا جلست.

فجلس و دخلت علیه الملوک و الأمراء و الأجناد یهنئونه و یحملون الیه الهدایا و التحف، و على رأسه خادم المنصور یحصى ما یحمل. فدخل فى آخر الناس شیخ کبیر السن فقال له: یابن رسول الله، اننى رجل صعلوک – أى فقیر – لا مال لى، أتحفک بثلاثة أبیات قالها جدى فى جدک الحسین بن على علیه‏السلام:

عجبت لمصقول علاک فرنده‏++

یوم الهیاج، و قد علاک غبار(30)

و لأسهم نفذتک دون حرائر++

یدعون جدک، و الدموع غزار(31)

ألا تقضقضت السهام، و دونها++

عن جسمک الاجلال و الاکبار(32)

قال [علیه‏السلام]: قبلت هدیتک، اجلس، بارک الله فیک.

و رفع رأسه الى الخادم و قال: امض الى أمیرالمؤمنین و عرفه بهذا المال و ما یصنع به؟.

فمضى الخادم، و عاد و هو یقول: کله هبة منى له، یفعل ما أراد.

فقال موسى [علیه‏السلام] للشیخ: اقبض جمیع هذا المال فهو هبة منى لک»(33)

و المال هذا هو مجموع عطایا المهنئین من علیه القوم لسلطان الزمان.

فهى عطایا جزیلة لا تقدر بثمن. و معنى ذلک أنها أموال کثیرة لأنها هدایا نفیسة، و تحف ثمینة، لم یتردد الامام علیه‏السلام عن دفعها بکاملها للشیخ الذى قال الشعر فى جده الحسین علیه‏السلام، بحیث جعلها هبة منه الیه على حسن مقاله و حسن نیته.

و أنت تشعر و أنت تقرأ هذه القصة أن الامام علیه‏السلام لم تستوقف نظرة تحف، و لا مال قلبه الى هدایا و نفائس، بل بادر الشیخ بقوله: اقبض جمیع هذا بطیبة نفس هاشمیة لا تجدها عند غیر أئمتنا الکرام علیهم الصلاة والسلام.

و أخیرا قال ابراهیم بن عبدالحمید:

«سمعت أباالحسن علیه‏السلام یقول فى سجوده: یا من علا فلا شى‏ء فوقه، یا من دنا فلا شى‏ء دونه، اغفرلى و لأصحابى»(34)

أما أصحابه المقربون رضوان الله علیهم – لا على الحصر الدقیق – فهم:

1- بابه المفضل بن عمر الجعفى.

2- و فى اختیار الرجال عن الطوسى: أنه اجتمع أصحابنا على تصدیق ستة نفر من فقهاء الکاظم و الرضا علیه‏السلام، و هم: یونس بن عبدالرحمان، و صفوان بن یحیى بیاع السابرى، و محمد بن عمیر، و عبدالله بن المغیرة، و الحسن بن محبوب السراد، و أحمد بن محمد بن نصر»(35)

3- و من ثقاته: الحسن بن على بن فضال الکوفى – مولى لتیم الرباب – و عثمان بن عیسى، و داود بن کثیر الرقى – مولى بنى‏أسد – و على بن جعفر الصادق علیه‏السلام»(11)

4- و من خواص أصحابه: على بن یقطین – مولى بنى‏أسد- و أبوالصلت عبدالسلام بن صالح الهروى، و اسماعیل بن مهران، و على بن مهزیار، من قرى فارس ثم سکن الأهواز- و الریان بن الصلت الخراسانى، و أحمد بن محمد الحلبى، و موسى بن بکیر الواسطى، و ابراهیم بن أبى‏البلاد الکوفى»(11)


1) الارشاد ص 278- 277 و المحجة البیضاء ج 4 ص 267 و کشف الغمة ج 3 ص 18 و الأنوار البهیة ص 162 و فى ینابیع المودة ج 3 ص 32 ذکر طول سجوده، و کثرة عبادته، و هو فى حلیة الأبرار ج 2 ص 253.

2) کشف الغمة ج 3 ص 20 و المحجة البیضاء ج 4 ص 268 و مناقب آل أبى‏طالب ج 4 ص 215 و ص 323 و الأنوار البهیة ص 260 و حلیة الأبرار ج 2 ص 253 -252.

3) حلیة الأبرار ج 2 ص 277.

4) الاحتجاج ج 2 ص 359.

5) مناقب آل أبى‏طالب ج 4 ص 318 و الأنوار البهیة ص 159 و اعلام الورى ص 296.

6) الأنوار البهیة ص 162.

7) سورة الذاریات: 17 و 18.

8) حلیة الأبرار ج 2 ص 281.

9) الى هنا فى کشف الغمة ج 3 ص 43- 42.

10) الحدیث بکامله فى حلیة الأبرار ج 2 ص 282 – 281.

11) المصدر السابق.

12) معانى الأخبار ص 370.

13) حلیة الأبرار ج 2 ص 253.

14) سورة سبأ: 13.

15) مناقب آل أبى‏طالب ج 323 و حلیة الأبرار ج 2 ص 253 و الأنوار البهیة ص 160.

16) الأنوار البهیة ص 160 و مناقب آل أبى‏طالب ج 4 ص 118 رواه عن الیونانى، و هو فى حلیة الأبرار ج 2 ص 220 و وفاة الامام موسى الکاظم ص 26.

17) سورة المؤمنون: 36.

18) سورة المزمل: 17.

19) الأنوار البهیة ص 161 و مناقب آل أبى‏طالب ج 2 ص 318 و هو فى حلیة الأبرار ج 2 ص 251 – 250 عن محمد بن عیسى الیقطینى، عن أحمد بن عبدالله القروى، عن أبیه، و هو فى وفاة الامام موسى الکاظم من ص 26 الى ص 28.

20) أنظر مناقب آل أبى‏طالب ج 4 ص 318 و الارشاد ص 278 و المحجة البیضاء ج 4 ص 268 و اعلام الورى ص 286.

21) ینابیع المودة ج 3 ص 32.

22) الأنوار البهیة ص 160.

23) الأنوار البهیة ص 160 و حلیة الأبرار ج 1 ص 159.

24) کشف الغمة ج 3 ص 8-7.

25) الارشاد ص 278 و کشف الغمة ج 3 ص 19-18 و المحجة البیضاء ج 4 ص 268- 267 و هو فى مناقب آل أبى‏طالب ج 4 ص 319 باختلاف یسیر فى اللفظ، و هو کذلک فى اعلام الورى ص 296 و حلیة الأبرار ج 2 ص 276-275.

26) کشف الغمة ج 3 ص 18 و المحجة البیضاء ج 4 ص 267 و الارشاد ص 277 و حلیة الأبرار ج 2 ص 260 و مناقب آل أبى‏طالب ج 4 ص 318 باختصار.

27) حلیة الأبرار ج 2 ص 276.

28) سورة ص: 39 و الخبر فى المحجة البیضاء ج 4 ص 43 و ص 95 و حلیة الأبرار ج 2 ص 283-282.

29) سورة الحشر: 7.

30) المصقول: السیف المسنون، و الفرند: جوهر السیف و ریشته، یوم الهیاج: یوم الحرب الثائرة.

31) الأسهم: هنا هى السهام التى تستعمل فى الحرب. نفذتک: أصابتک. و الحرائر: النساء یستغثن بجدک و دموعهن تسیل بغزارة.

32) تقضقضت السهام: تفرقت عنک اجلالا لک، و هیبة منک، و احتراما لک.

33) مناقب آل أبى‏طالب ج 4 ص 319-318.

34) التوحید ص 67.

35) مناقب آل أبى‏طالب ج 4 ص 325.