أحد الصادقین علیهالسلام فى قول الله عزوجل: (فبشر عباد (17) الذین یستمعون القول فیتبعون أحسنه أولئک الذین…)(1) قال:
«هم المسلمون لآل محمد صلى الله علیهم و سلم؛ اذا سمعوا الحدیث أدوه کما سمعوه، لا یزیدون و لا ینقصون».(2)
و أنا على هذا الأساس أتابع سیرى فى بیان ما وصل الیه فهمى من سیرهم علیهمالسلام، فأوصله الى قرائى الکرام، مستمدا تعلیقاتى من أقوالهم، و أقوال أولیائهم أو خصومهم، لا أزید و لا أزاید، و لا أنقص و لا أتنقص، بل أبرز الحق و أثابر على صدق الکلمة، فأفسر مرة، و أوضح أخرى، و أرسم بعض الظلال لا یضاح ما أنا بصدده مرة ثالثة. و بین یدى باب الحوائج علیهالسلام أعتذر الى الله سبحانه و الیه عن التقصیر فى فهم کل مآتیه، و ابراز جمیع معانیه، فان ذلک یستعصى على جهابذة الفهم، و یستحیل على حملة العلم، و سائر أرباب القلم، لأن امامته التى استغرقت أکثر من ثلث قرن، أقضت مضاجع أربعة من الخلفاء الجبابرة، و أتعبت وزراءهم و المشیرین فى قصورهم، ممن باعوا آخرتهم و عبدوا السلاطین، و طعام الغسلین.
أجل، کانت حیاته أحجیة فى عصر دام نصف قرن و أعواما، اذ بدأت تظهر مخایل آیاته و هو فى المهد، و أذهلت معاصریه الى نهایة ذلک العهد، ثم مازال یسمو رفعة و ظهورا کلما حاولوا اطفاء نور الله تعالى فیه، فبهر عقول العلماء، و أدهش الخلفاء و الأمراء، و تقوقع بین یدیه الفقهاء و القضاة؛ ثم ما زاده کید هؤلاء و هؤلاء الا عظمة و سموا، لأن من وقف فى وجه أمر الله تعالى، باء بخزیه.
و فى کتابى هذا ترانى عارض أحداث و حوادث، و محلل مبهمات و غوامض، و مزیلا لغبار ظلم الحکام الذى غطى حقائق التاریخ، و معلنا لحقائق خرست عندها أقلام الجبناء الذین لهثوا وراء الرغیف، و أعمى أبصارهم بریق الدنانیر، أو کم أفواههم لمعان السیاط… و قد أصاب أبو نؤاس کبد الحقیقة یوم قال لامامنا الکاظم علیهالسلام حین تشرف بلقائه:
اذا أبصرتک العین من غیر ریبة++
و عارض فیک الشک، أثبتک القلب
و لو أن رکبا یمموک لقادهم++
نسیمک، حتى یستدل بک الرکب
جعلتک حسبى فى أمورى کلها++
و ما خاب من أضحى و أنت له حسب(3)
و أنا أجعله حسبى… و انه علیهالسلام لکما قال أبونؤاس: بل هو فوق ذلک، و لا یعرفه على حقیقته الا بارئه الذى جعله للناس اماما. و أنا انما أحاول تقریب الآخرین من معرفته جزئیا، و بقدر استیعابى لما یصدر عن الله تبارک و تعالى؛ فهو منتدب من لدن ربه الذى صنعه على عینه، و رصده لأمره، حجة على خلقه.
و الشىء الوقح عندنا أننا نعتبر أنفسنا شرکاء لله تعالى فى اختیاره فنرضى ببعض الأمور الصادرة عنه، و نرفض البعض الآخر، کأنه کان ینبغى له أن یستشیرنا فیما یقضى و یقدر؛ فنقف فى وجه انتخابه للأنبیاء و نکذبهم، و نعارض انتخابه لأوصیاء رسله، و نرفض عطاءاته لأصفیائه بالرغم من أنه سبحانه قد وبخ على ذلک بقوله الکریم: (أم لهم نصیب من الملک – یعنى ملکه جلت قدرته – فاذا لا یؤتون الناس نقیرا(53))(4)،أى یبخلون بالنعمة على الآخرین و ان کان المنعم بها غیرهم… (أم یحسدون الناس على ما ءاتاهم الله من فضله – و هذا هو الواقع الذى سفهه سبحانه و تعالى، و قال: – فقد ءاتینا ءال ابراهیم الکتاب و الحکمة و ءاتیناهم ملکا)(5) رضى الحاسدون بذلک أم رفضوه… و ملک آل ابراهیم – أى محمد و أهل بیته صلوات الله علیهم- یتجلى فى ولاء مئات و مئات الملایین للأوامر التى حملوها للناس، و للنواهى التى سنها دستور السماء و جعلهم أمناء علیها… و طاعة أولیائهم لهم.
و فى مجال الکلام حول الامام المنصب من الله تبارک و تعالى، نورد ما قاله الامام الرضا علیهالسلام الذى قال: «… فکیف لهم – أى للناس – باختیار الامام، و الامام عالم لا یجهل، وراع لا ینکل، أى لا یضعف – معدن القدس و الطهارة، و النسک و الزهادة، و العلم والعبادة، مخصوص بدعوة الرسول – أى بحمل الرسالة من بعده – و نسل المطهرة البتول؛ لا مغمز فیه فى نسب… مضطلع بالامامة، عالم بالسیاسة، مفروض الطاعة، قائم بأمر الله عزوجل، ناصح لعباد الله، حافظ لدین الله… ثم قال فى حدیث طویل:
ان العبد اذا اختاره الله لأمور عباده، شرح صدره لذلک، و أودع قلبه ینابیع الحکمة، و ألهمه العلم الهاما، فلم یعى بعده بجواب، و لا یحیر فیه عن الصواب. فهو معصوم، مؤید، مؤفق، مسدد، قد أمن الخطایا و الزلل و العثار، یخصه الله بذلک لیکون حجته على عباده، و شاهده على خلقه، و (ذلک فضل الله یؤتیه من یشاء والله ذو الفضل العظیم (21)).(6)
و بالحقیقة اذا وقع اختیار الله سبحانه. و قضى بأمر، فلیس للاهث وراء ابطال أمره و اختیاره الا العثار و الخسار… و قد حدث صفوان الجمال عن الامام الکاظم علیهالسلام قائلا:
«سألت الشیخ – و هذا أحد ألقاب امامنا – عن الائمة علیهمالسلام؟
قال: من أنکر واحدا من الأحیاء، فقد أنکر الأموات».(7)
فلا یبطل انکارنا اختیار الله تعالى، و لا یقف فى وجه تمیز الامام عن الناس اعتراض أحد، بل ان انکار الأئمة – أحیاء و أمواتا – هو کفر و نفاق بما جاء به محمد صلى الله علیه و اله و سلم عن ربه، و قضاء الله سبحانه لا شأن للعباد فیه.
و باب الحوائج علیهالسلام، هو فعلا باب قضاء الحوائج التى یرفعها الناس بواسطته الى الله تعالى. و قد ذکروا أن امرأة رؤیت فى بغداد و هى تهرول – ترکض – فقیل لها الى أین؟ قالت: الى موسى بن جعفر. فقال لها قائل مستهزى: انه – أى الامام – قد مات فى الحبس – یعنى أنه لو کان یقدر على شىء لخلص نفسه من الحبس – و کان ذلک بعد وفاته بقلیل.
فقالت المرأة: بحق المقتول فى الحبس أن ترینى القدرة!.
فاذا بابنها قد أطلق، و أخذ ابنالمستهزىء بجنایته».(8)
فبهذه السرعة یستجیب الله تعالى لمن توسل بالامام باخلاص و معرفة و انقطاع. ولو حاولنا ذکر أمثال هذه القصة للزم أن نفرد لذلک کتابا ضخما لا بابا فى هذا الکتاب، فان ذلک معروف لدى العام و الخاص فى بغداد و فى الأقطار الاسلامیة. قد قال العلامة القندوزى – و هو من فقهاء أهل السنة-:
«و أما جملة القول فى أبناء على رضى الله عنهم، فهم معظمون مکرمون عند الناس بدون اختیارهم، و المؤمنون بتعظیمهم و تکریمهم واثقون و موقنون. فلهم سر کریم، و کمال جسیم، و شیم عجیب، و عرق طیب، و فضل بین، و وقار متین، و عرق نام، و غصن باسق، و أصل ثابت!. فلذلک لم یکتفوا بذلک التعظیم و التکریم، فاشتغلوا بالتکالیف الشداد، و المحن الغلاظ، و العبادات الشاقة، و المجاهدات التامة».(9)
و انهم علیهمالسلام لکما قال و فوق ما قال، و لم یصل الى معرفة قدرهم موال و لا معاد أبدا، بل ان الموالى لما تداخله نفث الشیطان تصور هم أربابا، کما أن المعادى الذى لم یستوعب منزلتهم الالهیة قال فیهم مثلما قال الکفرة بکل ما ینزل من السماء حین رموا أنبیاء الله بالکذب و السحر. و مع ذلک لم نجد ذاما لائمتنا علیهمالسلام، لا من الحکام و لا من ذوى الأطماع، و لا العلماء، و لا الجهال و ان کان قد خالفهم الحکام، و حسدهم العلماء، و ازور عنهم أهل التعصب و العناد. و قد قال کمال الدین، محمد بن طلحة الشافعى بحق هذا الامام العظیم علیهالسلام:
(هو الامام الکبیر القدر، العظیم الشأن، الکثیر التهجد، الجاد فى الاجتهاد، المشهور بالعبادة، المواظب على الطاعات، المشهود بالکرامات، یبیت اللیل ساجدا و قائما، و یقطع النهار متصدقا و صائما، و لفرط حلمه و تجاوزه عن المعتدین علیه، دعى کاظما. کان یجازى المسىء باحسانه الیه، و یقابل الجانى علیه بعفوه عنه؛ و لکثرة عبادته کان یسمى بالعبد الصالح؛ و یعرف فى العراق بباب الحوائج الى الله لنجح المتوسلین الى الله تعالى به. کراماته تحار بها العقول، و تقضى بأن له عندالله تعالى قدم صدق لا تزل و لا تزول».(10)
قال باب الحوائج – فیما رواه عنه أبوالمغراء -.
«من کانت له الى الله حاجة، و أراد أن یرانا، و أن یعرف موضعه من الله، فلیغتسل ثلاث لیال یناجى بنا، فانه یرانا، و یغفر له بنا، و لا یخفى علیه موضعه.
قلت: سیدى، فان رجلا رآک فى منامه، و هو یشرب النبیذ؟.
قال: لیس النبیذ یفسد علیه دینه؛ انما یفسد علیه ترکنا و تخلفه عنا. ان أشقى أشقیائکم من یکذبنا فى الباطن بما یخبر عنا؛ یصدقنا فى الظاهر، و یکذبنا فى الباطن.
نحن أبناء نبى الله، و أبناء رسول الله صلوات الله علیه، و أبناء أمیر المؤمنین علیهالسلام، و أحباب رب العالمین. نحن مفتاح الکتاب، بحبنا نطق العلماء، و لو لا ذلک لخرسوا. نحن رفعنا المنار، و عرفنا القبلة؛ نحن حجر
البیت فى السماء و الأرض، و بنا غفر لآدم، وبنا ابتلى أیوب، و بنا افتقد یعقوب، و بنا حبس یوسف، و بنا رفع البلاء.
بنا أضاءت الشمس، و نحن مکتوبون على عرش ربنا. مکتوبون: محمد خیر البشر، و على سید الوصیین، و فاطمة سیدة نساء العالمین. من أحبنا و تبرأ من عدونا کان معنا، و ممن فى الظل الممدود، و الماء المسکوب».(11)
و لا عجب أن یکونوا کذلک مازال الله تعالى قد جعلهم کذلک، و جعلهم مطهرین من کل دنس بنص القرآن الکریم، و حملهم کلمته، و جعلهم تراجمة وحیه، و حملة أمره، و الححج على خلقه، فأعطاهم ما لم یعط أحدا من العالمین، لیکونوا جدیرین باضطلاع منصب السفارة عنه فى أرضه، و بتفسیر الکتاب، و بیان السنة و الأحکام فى الحلال و الحرام.
و لا ینقضى العجب من الذین خاصموهم و ناصبوهم العداوة، کیف سموا أنفسهم مسلمین، و کیف قعد کثیرون منهم مقعد رسول الله صلى الله علیه و اله و سلم فى حکم الأمة، ثم لم یتورعوا عن قتل ذریته و ابادة نسله، ناسین أن لهم موقف خصومة معهم یوم القیامة… و یوم العدل… الذى یکون أشد على الظالم من المظلوم.
و بالأخیر نضع بین یدى القارىء الکریم صورة حیة لامامنا الکاظم علیهالسلام أیام طفولته المبکرة تتجلى فیها مظاهر عطایا الله تعالى لأبناء هذا البیت الکریم. فقد قال الامام الکاظم – نفسه -:
«دخلت ذات یوم من المکتب و معى لوحى، فأجلسنى أبى بین یدیه و قال: یا بنى اکتب: تنح عن القبیح و لا ترده…
ثم قال: أجزه.
فقلت: و من أولیته حسنا فزده.
ثم قال: ستلقى من عدوک کل کید.
قلت: اذا کاد العدو فلا تکده.
قال: فقال: (ذریة بعضها من بعض!…).(12)
«و قیل لأبى عبدالله الصادق علیهالسلام: ما بلغ بک من حبک ابنک موسى علیهالسلام؟!
فقال: وددت أن لیس لى ولد غیره، حتى لا یشارکه فى حبى له أحد».(13)
و حدث الحسن بن على الوشاء عن الامام الرضا علیهالسلام، فقال:
«سألته عن زیارة قبر أبىالحسن، موسى بن جعفر علیهالسلام، مثل زیارة الحسین علیهالسلام؟
قال: نعم».(14)
و (ان فى هذا لبلاغا لقوم عابدین)(15)
1) سورة الزمر: 18- 17.
2) الاختصاص ص 5.
3) مناقب آل أبىطالب ج 4 ص 317.
4) سورة النساء: 53.
5) سورة النساء: 54.
6) سورة الحدید: 21، و سورة الجمعة: 4 والحدیث طویل و هو فى المحجة البیضاء ج 4 من ص 174 الى ص 182 نقلا عن الکافى م 1 ص 203.
7) الکافى م 1 ص 373 و هو موجود فى عدة مصادر اسلامیة.
8) مناقب آل أبىطالب ج 4 ص 30 و الأنوار البهیة ص 173.
9) ینابیع المودة ج 1 ص 154-153 و ج 3 ص 10 و ص 32 شىء من ذلک.
10) الأنوار البهیة ص 152 و کشف الغمة ج 3 ص 2 و المحجة البیضاء ج 4 ص 267- 266 نقلا عن مطالب السؤل ص 83.
11) أنظر الاختصاص ص 91-90 و الحدیث طویل، و هو اشارة الى أنه رواه موسى المبرقع أیضا فى بحارالأنوار ج 7 ص 336.
12) الآیة فى آلعمران: 34 و الحدیث فى مناقب آل أبىطالب ج 4 ص 320 -319.
13) الأنوار البهیة ص 153.
14) المحجة البیضاء ج 4 ص 47 نقلا عن کتاب من لا یحضره الفقیه، باب زیارة النبى صلى الله علیه و اله و سلم ص 298.
15) سورة الأنبیاء: 106.