– أهل البیت فی القرآن الکریم
(إنّمـا یـریـد الله لیذهـب عـنکـم الرّجس أهـل البیت ویطهّـرکـم تطهیـراً)
«سورة الأحزاب / آیة: 33»
– أهل البیت فی الُسنّة النبویّة
«إنّـی تـارک فیکـم الثقلیـن کـتـاب الله وعتـرتـی أهـل بیتـی مـا إن تمسکتـم بهمـا لـن تـضـلّـوا بـعـدی أبـدا»
«الصحاح والمسانید»
الحمدلله الذی أعطى کلّ شیء خلقه ثم هدى، ثم الصلاة والسلام على من اختارهم هداةً لعباده، لا سیما خاتم الأنبیاء وسیّد الرسل والأصفیاء أبوالقاسم المصطفى محمد (صلى الله علیه وآله) وعلى آله المیامین النجباء.
لقد خلق الله الانسان وزوّده بعنصری العقل والإرادة، فبالعقل یبصر ویکتشف الحقّ ویمیّزه عن الباطل، وبالإرادة یختار ما یراه صالحاً له ومحقّقاً لأغراضه وأهدافه.
وقد جعل الله العقل الممیِّز حجةً له على خلقه، وأعانه بما أفاض على العقول من معین هدایته ; فإنّه هو الذی علّم الإنسان ما لم یعلم، وأرشده إلى طریق کماله اللائق به، وعرّفه الغایة التی خلقه من أجلها، وجاء به إلى هذه الحیاة الدنیا من أجل تحقیقها.
وأوضح القرآن الحکیم بنصوصه الصریحة معالم الهدایة الربّانیة وآفاقها ومستلزماتها وطرقها، کما بیّن لنا عللها وأسبابها من جهة، وأسفر عن ثمارها ونتائجها من جهة اُخرى.
قال تعالى:
(قُلْ إنّ هُدى الله هو الهُدى) [الأنعام (6): 71].
(والله یهدی من یشاء إلى صراط مستقیم) [البقرة (2): 213].
(والله یقول الحقّ وهو یهدی السبیل) [الأحزاب (33): 4].
(ومن یعتصم بالله فقد هُدی إلى صراط مستقیم) [آل عمران (3): 101].
(قل الله یهدی للحقّ أفمن یهدی إلى الحق أحق أن یتَّبع أمّن لا یهدّی إلاّ أن یُهدى فمالکم کیف تحکمون)[یونس (10): 35].
(ویرى الذین اُوتوا العلم الذی اُنزل الیک من ربّک هو الحقّ ویهدی إلى صراط العزیز الحمید) [سبأ (34): 6].
(ومن أضلّ ممن اتّبع هواه بغیر هدىً من الله) [القصص (28):50].
فالله تعالى هو مصدر الهدایة. وهدایته هی الهدایة الحقیقیة، وهو الذی یأخذ بید الانسان إلى الصراط المستقیم وإلى الحقّ القویم.
وهذه الحقائق یؤیدها العلم ویدرکها العلماء ویخضعون لها بملء وجودهم.
ولقد أودع الله فی فطرة الانسان النزوع إلى الکمال والجمال ثمّ مَنّ علیه بإرشاده إلى الکمال اللائق به، وأسبغ علیه نعمة التعرّف على طریق الکمال، ومن هنا قال تعالى: (وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلاّ لیعبدونِ)[الذاریات (51): 56].
وحیث لا تتحقّق العبادة الحقیقیة من دون المعرفة، کانت المعرفة والعبادة طریقاً منحصراً وهدفاً وغایةً موصلةً إلى قمّة الکمال.
وبعد أن زوّد الله الانسان بطاقتی الغضب والشهوة لیحقّق له وقود الحرکة نحو الکمال; لم یؤمَن علیه من سیطرة الغضب والشهوة; والهوى الناشئ منهما، والملازم لهما فمن هنا احتاج الانسان ـ بالإضافة إلى عقله وسائر
أدوات المعرفة ـ الى ما یضمن له سلامة البصیرة والرؤیة; کی تتمّ علیه الحجّة، وتکمل نعمة الهدایة، وتتوفّر لدیه کلّ الأسباب التی تجعله یختار طریق الخیر والسعادة، أو طریق الشرّ والشقاء بملء إرادته.
ومن هنا اقتضت سُنّة الهدایة الربّانیة أن یُسند عقل الانسان عن طریق الوحی الإلهی، ومن خلال الهداة الذین اختارهم الله لتولِّی مسؤولیة هدایة العباد وذلک عن طریق توفیر تفاصیل المعرفة وإعطاء الارشادات اللازمة لکلّ مرافق الحیاة.
وقد حمل الأنبیاء وأوصیاؤهم مشعل الهدایة الربّانیة منذ فجر التاریخ وعلى مدى العصور والقرون، ولم یترک الله عباده مهملین دون حجة هادیة وعلم مرشد ونور مُضیء، کما أفصحت نصوص الوحی ـ مؤیّدةً لدلائل العقل ـ بأنّ الأرض لا تخلو من حجة لله على خلقه، لئلاّ یکون للناس على الله حجّة، فالحجّة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق، ولو لم یبق فی الأرض إلاّ اثنان لکان أحدهما الحجّة، وصرّح القرآن ـ بشکل لا یقبل الریب ـ قائلاً: (إنّما أنت منذر ولکلّ قوم هاد)[الرعد (13): 7].
ویتولّى أنبیاء الله ورسله وأوصیاؤهم الهداة المهدیّون مهمّة الهدایة بجمیع مراتبها، والتی تتلخّص فی:
1 ـ تلقِّی الوحی بشکل کامل واستیعاب الرسالة الإلهیة بصورة دقیقة. وهذه المرحلة تتطلّب الاستعداد التام لتلقّی الرسالة، ومن هنا یکون الاصطفاء الإلهی لرسله شأناً من شؤونه، کما أفصح بذلک الذکر الحکیم قائلاً: (الله أعلم حیث یجعل رسالته)[الأنعام (6): 124].
و (الله یجتبی من رسله من یشاء)[آل عمران (3): 179].
2 ـ إبلاغ الرسالة الإلهیة الى البشریة ولمن اُرسلوا إلیه، ویتوقّف الإبلاغ على الکفاءة التامّة التی تتمثّل فی «الاستیعاب والإحاطة اللازمة» بتفاصیل الرسالة وأهدافها ومتطلّباتها، و «العصمة» عن الخطأ والانحراف معاً، قال تعالى: (کان الناسُ اُمّةً واحدةً فبعث الله النبیِّین مبشّرین ومنذرین وأنزل معهم الکتابَ بالحقّ لیحکم بین الناس فیما اختلفوا فیه)[البقرة (2): 213].
3 ـ تکوین اُمة مؤمنة بالرسالة الإلهیة، وإعدادها لدعم القیادة الهادیة من أجل تحقیق أهدافها وتطبیق قوانینها فی الحیاة، وقد صرّحت آیات الذکر الحکیم بهذه المهمّة مستخدمةً عنوانی التزکیة والتعلیم، قال تعالى: (یزکّیهم ویعلّمهم الکتابَ والحکمة) [الجمعة (62): 2].
والتزکیة هی التربیة باتجاه الکمال اللائق بالإنسان. وتتطلّب التربیة القدوة الصالحة التی تتمتّع بکلّ عناصر الکمال، کما قال تعالى: (لقد کان لکم فی رسول الله اُسوة حسنة)[الاحزاب (33): 21].
4 ـ صیانة الرسالة من الزیغ والتحریف والضیاع فی الفترة المقرّرة لها، وهذه المهمة أیضاً تتطلّب الکفاءة العلمیة والنفسیة، والتی تسمّى بالعصمة.
5 ـ العمل لتحقیق أهداف الرسالة المعنویة وتثبیت القیم الأخلاقیة فی نفوس الأفراد وأرکان المجتمعات البشریة وذلک بتنفیذ الاُطروحة الربّانیة، وتطبیق قوانین الدین الحنیف على المجتمع البشری من خلال تأسیس کیان سیاسیٍّ یتولّى إدارة شؤون الاُمة على أساس الرسالة الربّانیة للبشریة، ویتطلّب التنفیذ قیادةً حکیمةً، وشجاعةً فائقةً، وثباتاً کبیراً، ومعرفةً تامةً بالنفوس وبطبقات المجتمع والتیارات الفکریة والسیاسیة والاجتماعیة وقوانین الإدارة والتربیة وسنن الحیاة، ونلخّصها فی الکفاءة العلمیة لإدارة دولة عالمیة دینیة، هذا فضلاً عن العصمة التی تعبّر عن الکفاءة النفسیة التی تصون القیادة
الدینیة من کلّ سلوک منحرف أو عمل خاطى بإمکانه أن یؤثّر تأثیراً سلبیّاً على مسیرة القیادة وانقیاد الاُمة لها بحیث یتنافى مع أهداف الرسالة وأغراضها.
وقد سلک الأنبیاء السابقون وأوصیاؤهم المصطفون طریق الهدایة الدامی، واقتحموا سبیل التربیة الشاقّ، وتحمّلوا فی سبیل أداء المهامّ الرسالیة کلّ صعب، وقدّموا فی سبیل تحقیق أهداف الرسالات الإلهیة کلّ ما یمکن أن یقدّمه الإنسان المتفانی فی مبدئه وعقیدته، ولم یتراجعوا لحظة، ولم یتلکّأوا طرفة عین.
وقد توّج الله جهودهم وجهادهم المستمرّ على مدى العصور برسالة خاتم الأنبیاء محمد بن عبدالله (صلى الله علیه وآله) وحمّله الأمانة الکبرى ومسؤولیة الهدایة بجمیع مراتبها، طالباً منه تحقیق أهدافها. وقد خطا الرسول الأعظم (صلى الله علیه وآله) فی هذا الطریق الوعر خطوات مدهشة، وحقّق فی أقصر فترة زمنیة أکبر نتاج ممکن فی حساب الدعوات التغییریة والرسالات الثوریة، وکانت حصیلة جهاده وکدحه لیل نهار خلال عقدین من الزمن ما یلی:
1 ـ تقدیم رسالة کاملة للبشریة تحتوی على عناصر الدیمومة والبقاء.
2 ـ تزویدها بعناصر تصونها من الزیغ والانحراف.
3 ـ تکوین اُمة مسلمة تؤمن بالإسلام مبدأً، وبالرسول قائداً، وبالشریعة قانوناً للحیاة.
4 ـ تأسیس دولة إسلامیة وکیان سیاسیٍّ یحمل لواء الإسلام ویطبّق شریعة السماء.
5 ـ تقدیم الوجه المشرق للقیادة الربّانیة الحکیمة المتمثّلة فی قیادته (صلى الله علیه وآله).
ولتحقیق أهداف الرسالة بشکل کامل کان من الضروری:
أ ـ أن تستمرّ القیادة الکفوءة فی تطبیق الرسالة وصیانتها من أیدی العابثین الذین یتربّصون بها الدوائر.
ب ـ أن تستمرّ عملیة التربیة الصحیحة باستمرار الأجیال; على ید مربٍّ کفوء علمیاً ونفسیاً حیث یکون قدوة حسنة فی الخلق والسلوک کالرسول(صلى الله علیه وآله)، یستوعب الرسالة ویجسّدها فی کل حرکاته وسکناته.
ومن هنا کان التخطیط الإلهیّ یحتّم على الرسول (صلى الله علیه وآله) إعداد الصفوة من أهل بیته، والتصریح بأسمائهم وأدوارهم; لتسلّم مقالید الحرکة النبویّة العظیمة والهدایة الربّانیة الخالدة بأمر من الله سبحانه وصیانة للرسالة الإلهیة التی کتب الله لها الخلود من تحریف الجاهلین وکید الخائنین، وتربیة للأجیال على قیم ومفاهیم الشریعة المبارکة التی تولّوا تبیین معالمها وکشف أسرارها وذخائرها على مرّ العصور، وحتى یرث الله الأرض ومن علیها.
وتجلّى هذا التخطیط الربّانی فی ما نصّ علیه الرسول(صلى الله علیه وآله) بقوله: «إنّی تارک فیکم الثقلین ما إن تمسّکتم بهما لن تضلّوا، کتاب الله وعترتی، وإنّهما لن یفترقا حتى یردا علیّ الحوض».
وکان أئمة أهل البیت صلوات الله علیهم خیر من عرّفهم النبی الأکرم(صلى الله علیه وآله) بأمر من الله تعالى لقیادة الاُ مّة من بعده.
إنّ سیرة الأئمّة الاثنی عشر من أهل البیت (علیهم السلام) تمثّل المسیرة الواقعیة للاسلام بعد عصر الرسول (صلى الله علیه وآله)، ودراسة حیاتهم بشکل مستوعب تکشف لنا عن صورة مستوعبة لحرکة الاسلام الأصیل الذی أخذ یشقّ طریقه إلى أعماق الاُمة بعد أن أخذت طاقتها الحراریة تتضاءل بعد وفاة الرسول (صلى الله علیه وآله)،
فأخذ الأئمة المعصومون (علیهم السلام) یعملون على توعیة الاُمة وتحریک طاقتها باتجاه إیجاد وتصعید الوعی الرسالیِّ للشریعة ولحرکة الرسول (صلى الله علیه وآله) وثورته المبارکة، غیر خارجین عن مسار السنن الکونیة التی تتحکّم فی سلوک القیادة والاُمة جمعاء.
وتبلورت حیاة الأئمّة الراشدین فی استمرارهم على نهج الرسول العظیم وانفتاح الاُمة علیهم والتفاعل معهم کأعلام للهدایة ومصابیح لإنارة الدرب للسالکین المؤمنین بقیادتهم، فکانوا هم الأدلاّء على الله وعلى مرضاته، والمستقرّین فی أمر الله، والتامّین فی محبّته، والذائبین فی الشوق الیه، والسابقین إلى تسلّق قمم الکمال الإنسانیّ المنشود.
وقد حفلت حیاتهم بأنواع الجهاد والصبر على طاعة الله وتحمّل جفاء أهل الجفاء حتّى ضربوا أعلى أمثلة الصمود لتنفیذ أحکام الله تعالى، ثم اختاروا الشهادة مع العزّ على الحیاة مع الذلّ، حتى فازوا بلقاء الله سبحانه بعد کفاح عظیم وجهاد کبیر
ولا یستطیع المؤرّخون والکتّاب أن یلمّوا بجمیع زوایا حیاتهم العطرة ویدّعوا دراستها بشکل کامل، ومن هنا فإنّ محاولتنا هذه إنّما هی إعطاء قبسات من حیاتهم، ولقطات من سیرتهم وسلوکهم ومواقفهم التی دوّنها المؤرّخون واستطعنا اکتشافها من خلال مصادر الدراسة والتحقیق، عسى الله أن ینفع بها إنّه ولیّ التوفیق.
إنّ دراستنا لحرکة أهل البیت (علیهم السلام) الرسالیة تبدأ برسول الإسلام وخاتم الأنبیاء محمد بن عبدالله (صلى الله علیه وآله) وتنتهی بخاتم الأوصیاء، محمد بن الحسن العسکری المهدی المنتظر عجّل الله تعالى فرجه وأنار الأرض بعدله.
ویختصّ هذا الکتاب بدراسة حیاة الإمام موسى بن جعفر، التاسع من أعلام الهدایة الذی جسّد الکمالات النبویة فی العلم والهدایة والعمل والتربیة وتوسعت بجهوده العلمیة الجبارة مدرسة أهل البیت (علیهم السلام) واتضحت معالمها وأینعث ثمارها ولا زلنا نتفیّأ ظلالها حتى عصرنا هذا.
ولا بدَّ لنا من تقدیم الشکر الى کلّ الاخوة الأعزّاء الذین بذلوا جهداً وافراً وشارکوا فی إنجاز هذا المشروع المبارک وإخراجه إلى عالم النور، لا سیما أعضاء لجنة التألیف بإشراف سماحة السید منذر الحکیم حفظه الله تعالى.
ولا یسعنا إلاّ أن نبتهل الى الله تعالى بالدعاء والشکر لتوفیقه على إنجاز هذه الموسوعة المبارکة فإنه حسبنا ونعم النصیر.
المجمع العالمی لأهل البیت علیهم السلام
قم المقدسة