و بعد کل ما تقدم..
فاننا علینا أن نسجل هنا الحقیقة التالیة: و هى:
أن الامام الجواد «علیهالسلام» قد قام بأعظم المهمات و أخطرها.. ولو أنه لم یقم طول حیاته الشریفة بأى نشاط آخر، سوى ما ذکرناه من تثبیت دعائم الامامة، و حفظ خط الوصایة و الزعامة فى أهل البیت علیهم التحیة والسلام.. لکفاه ذلک رفعة و فخرا، و عظمة و مجدا، على مدى الدهور و العصور..
فان نفس عجزهم عن النیل من مقام امامته علیه الصلاة والسلام، و یبقى هو الزعیم و القائد، و الوصى و الامام و عدم تمکنهم من مواجهته فى أعظم ما یدعیه، رغم صغر سنه، و رغم أنه لم یتلق العلوم و المعارف من
أحد من الناس سوى أبیه الذى عاش معه لفترة وجیزة جدا، حینما کان طفلا.. ان هذا کاف فى المراد، و واف فى المقصود..
کما أن نفس قبول الشیعة بهذا الأمر، و التزامهم به، و هم الطائفة التى تأخذ على نفسها أن تکون منسجمة کل الانسجام مع المنطق و العقل، و مع الدلیل القاطع، و البرهان الساطع، مهما کانت الظروف، و أیا کانت النتائج..
نعم.. ان هذا و ذاک لهو من أعظم الأدلة على أحقیة هذا الخط، و على سلامة هذا النهج، و على وضوح هذا السبیل..
و حتى حینما عملوا على قتله «علیهالسلام»، بذلک الأسلوب العاجز و الجبان، و کان عمره الشریف لا یزید عن خمس و عشرین سنة الا قلیلا..
فان خلیفته و وصیه، و القائم مقامه، هو الآخر یتولى هذا الأمر و هو صغیر السن، بل کان عمره أقل من عمر أبیه حین تصدى لأمر الامامة.. فیقف لیتحداهم، و لیقهرهم، و یبهرهم، بنفس الحالة التى بهرهم و قهرهم بها أبوه من قبل..
ثم یتولى الامامة بعد ذلک: الامام الحجة «علیهالسلام»، فى سن أصغر من ذلک، حیث کان عمره خمس سنین فقط..
و یکون کل منهم «علیهمالسلام» أعظم الدلالات، و أوضح السبل و المناهج، لتعریف الناس بمقام الامامة، الذى أراد أعداؤهم، و عملوا بکل ما فى وسعهم لتعمیة الدلالات علیه، و تشویش، و طمس السبل و المناهج الیه..
و قد کانت امامة الهادى، بعد الامام الجواد علیهماالسلام، تتحدى سلطانا غاشما، ظالما، متعصبا، لا یطیق ذکر الامام على «علیهالسلام» بخیر
أبدا، و هو الذى حرث قبر الامام الحسین «علیهالسلام»، و أجرى علیه الماء، بهدف طمس معالمه، و لیعفى أثره، و کان منقادا لزعیم تیار أهل الحدیث الذى یعتمد النصوص أساسا لحرکته الفکریة و الایمانیة، و قد کان هؤلاء فى أوج قدرتهم و فى عصرهم الذهبى، فى ظل أکبر زعمائهم، و هو أحمد بن حنبل، تحمیهم حراب سلطة لا تخاف الله فى أهل البیت «علیهمالسلام»، و فى شیعتهم، مع حرصهم الشدید و الأکید على التشکیک بالنصوص.. خصوصا ما کان منها فى حق الامام على و أهل بیته «علیهمالسلام»، و بالأخص ما یثبت امامتهم صلوات الله و سلامه علیهم..
و قد کان الفلج لأئمتنا الأطهار «علیهمالسلام» على کلا هذین التیارین: تیار الاعتزال، و تیار أهل الحدیث، و حیث کان التشیع فى أضعف حالاته باعتقاد الناس، فى أهم عنصر یقوم علیه، و هو عنصر الامامة… و ذلک لصغر سن أئمتهم «علیهمالسلام»..
ثم کان الاعتزال و أهل الحدیث فى أقوى حالاتهما، و فى عصریهما الذهبیین، و فى عهد عظماء أئمة الفریقین و مفکریهما، و حیث تتوفر کل الامکانات لهم، و هم تحت رعایة و حمایة السلطة بکل عساکرها، وقواها المادیة و المعنویة، و حیث یتوفر البطش و التعصب، و التسلح بالنص الدینى المقدس، هو المسیطر فى جانب أهل الحدیث، و حیث یکون العقل و الحنکة و الحیلة و المکر، و السلطة و کل امکاناتها و رموزها، و عظماء النحلتین، هم المسیطرون و من ورائهم الشعب بکل طبقاته، و المذاهب، و النحل بجمیع توجهاتها، فى جانبهم..
نعم… ان النجاح للشیعة فى هذین الحالین سیکون الضمانة للنجاح فى کل العصور و الدهور، و سیکون هو الانجاز الأعظم و الأفخم کما قلنا..
فاتضح: أن هذه القضیة – و هى امامة التقى الجواد علیه الصلاة والسلام على صغر سنه – کانت من أعظم القضایا، التى مهدت لتلک المفاجأة الکبرى، التى تعرض لها الشیعة الامامیة فى قضیة الامام المهدى علیه الصلاة والسلام، الذى أصبح اماما، و عمره لا یزید على الخمس سنوات، ثم غاب عنهم غیبته الصغرى، ثم الکبرى، عجل الله تعالى فرجه، و سهل مخرجه، و جعلنا من أعوانه و أنصاره، و المجاهدین، و المستشهدین بین یدیه، انه خیر مأمول، و أکرم مسؤول..
و نعتقد: أن الرسول الأعظم «صلى الله علیه و آله»، هو الذى بدأ التمهید لهذا الحدث الهائل، و ذلک حینما بایع الحسنین علیهما الصلاة والسلام فى بیعة الرضوان – و لم یبایع صبیا غیرهما – حسبما ألمح المأمون الیه فى کلامه المنقول عنه فیما تقدم..
و کذلک حینما أشهد الحسن «علیهالسلام» على کتاب لثقیف، ثم أخرجه النبى «صلى الله علیه و آله» مع أخیه «علیهماالسلام» للمباهلة مع نصارى نجران، و غیر ذلک..
ثم تلا ذلک قضیة استشهاد الزهراء البتول بهما صلوات الله و سلامه علیها و علیهما.. حسبما أوضحنا ذلک کله فى کتابنا: «الحیاة السیاسیة للامام الحسن علیهالسلام».. فلیراجعه من أراد..
ولیکن هذا هو آخر کلامنا فى ما یرتبط بالحیاة السیاسیة للامام التقى
الجواد علیه الصلاة والسلام.. و نعتذر لعدم تمکننا من استیفاء الکلام فى هذا المجال.. فان ذلک یحتاج الى توفر تام، و وقت طویل.. و ما لا یدرک کله، لا یترک جله..
والحمد لله، والصلاة والسلام على محمد و آله الطیبین الطاهرین.